الخميس 09 أكتوبر 2025 | 03:29 مساءً

بسام عبد السميع

من أدقّ أسرار القرآن الكريم في دقة الألفاظ، ما ورد في التفريق بين الريح والرياح. فالريح في الغالب تأتي مفردةً في سياق العذاب، والرياح جمعًا في سياق الرحمة. فالريح تُشير إلى قوةٍ واحدةٍ مدمّرةٍ لا تترك وراءها حياة، أما الرياح فترمز إلى نَسَماتٍ متعددةٍ متعاونةٍ تحمل الخير والخصب والمطر.
يقول الله تعالى في الرحمة: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ (الأعراف: 57)
وفي العذاب: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ﴾ (فصلت: 16)
فالريح في وحدتها توحي بالقسوة والعنف، أما الرياح في تعددها فتوحي بالتناسق واللطف.
غير أن المعنى لا يُفهم من الصيغة وحدها، بل من السياق الذي يحتضنها، كما في قوله تعالى عن سليمان عليه السلام: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ (سبأ: 12).
فهنا جاءت الريح مفردة، لكنها ريح رحمةٍ وتسخيرٍ، لا عذابٍ ولا نقمة، ريح الطاعة لا ريح النقمة، ريحٌ منضبطة تسير بأمره، رخاءً حيث أصاب، ريحٌ مخلوقةٌ للعدل لا للهدم، لأن صاحبها نبيٌّ خضع قلبه لله قبل أن يخضع الكون له.
فمن أطاع الله سخّر الله له الريح، ومن عصاه سلّطها عليه. وهنا يتجلى المعنى الأكبر: أن الريح في القرآن مرآةٌ للنفس الإنسانية. حين تستقيم الروح، تُسخّر لها الرياح، وحين تضلّ، تثور عليها الريح.
فالريح ليست خارج الإنسان فقط، بل تسكنه أيضًا؛ تهبّ في صدره حين يغضب، وتهدأ فيه حين يرضى، فهي في داخله كما في الكون، وترمز الريح والرياح إلى التمرد والطاعة، اللين والعصف، الخوف والسكينة.
القرآن لا يفرّق بين "الريح" و"الرياح" تفريقًا لغويًا عابرًا، بل يميز بينهما دلالةً كونيةً عميقة؛ فـ"الريح" تأتي مفردة حين تكون مظهرًا للقهر الإلهي، و"الرياح" جمعًا حين تمثل الرحمة الربانية المنتشرة بين الخلق.
وهكذا يميّز القرآن بين الكلمتين تمييزًا شعوريًا وروحيًا؛ فالريح تبعث الخوف، والرياح تحمل البشارة، ليكتمل بينهما ميزان العدالة الإلهية بين الشدة واللطف، وبين الانتقام والعفو.
إنّ التأمل في الفرق بين الريح والرياح يُظهر أن اللغة القرآنية ليست ألفاظًا متفرقة، بل نظام دقيق من الإشارات والمعاني. فالكلمة القرآنية تُصاغ على مقياس الحكمة الإلهية لا على وزن الحاجة اللغوية. فاللغة هنا ليست وسيلة بل كل كلمة وحيٌ بذاتها وجزء من الوحي بالانضمام إلى زميلاتها من المفردات القرآنية.
فالله تعالى يُصرّف الرياح بالرحمة، ويرسل الريح بالعقوبة، وكلاهما من أمره وحكمته، لأن الريح والرياح وجهان للسنّة الإلهية في الكون: الريح تُوقظ، والرياح تُحيي؛ الريح تُنذر، والرياح تُبشّر.
فالريح الواحدة صفحةٌ من صفحات العدل، والرياح المتعددة صفحاتٌ من الرحمة. وفي تتابعهما يتجلّى الميزان الذي وضعه الله في الخلق: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ (الرحمن: 7–8).
وهكذا نرى أن الكلمة القرآنية ليست أداة تعبيرٍ فحسب، بل هي كيانٌ نابضٌ بالحياة والإيحاء، يجمع بين الصوت والمعنى، وبين الصورة والأثر. فإذا قرأت القرآن بقلبك، سمعتَ في كل لفظٍ نبضًا من نور، وإذا تدبّرته بروحك، وجدتَ في كل كلمة معجزةً تنتظر من يلتقطها ويدركها.
فالكلمة القرآنية كائنٌ من نورٍ يحمل أثر الوحي، لا يُدركه إلا من يقرأ بروحه كأنه في صلاة فكرية. والقرآن الكريم ليس كتاب أحكامٍ وتشريع فقط، بل نظام كونيّ من الحكمة، كل لفظٍ فيه له وظيفة في الوجود كما له وزن في اللغة. فهو يخلق السكينة كما يخلق المعنى، ويهب الحياة كما يهب البيان.
0 تعليق