في جبال الباحة حيث يتماوج الضباب مع خيوط الفجر الأولى، نشأ عبد الله بن سعيد أبو راس حاملاً في قلبه شغفاً مبكراً بالعلم وباحثاً عن معنى للمعرفة يتجاوز حدود القرية الصغيرة هناك في بيوت بني ظبيان بدأت أولى الخطوات التي ستقوده لاحقاً إلى أن يكون واحداً من أعلام الفكر والتربية والإعلام في المملكة.
تفتحت مداركه على التاريخ فكان اختياره لجامعة الملك سعود بالرياض بداية الطريق.. لم يكن مجرد طالب يقرأ بل كان يستنطق الماضي ليستشرف به المستقبل، ثم حمل حقيبته وارتحل بعيداً إلى الولايات المتحدة إلى جامعة بلومنغتون في ولاية انديانا، حيث غاص في عوالم جديدة من العلم، ليعود منها أول سعودي يحمل الدكتوراه في تكنولوجيا التعليم، مزوداً برؤية تتجاوز الزمن وحدود المكان.
لم يكن أبو راس أسير قاعات المحاضرات بل كان ابن الميدان، تقلد مناصب عدة في وزارة المعارف متنقلاً من الإشراف على التجهيزات المدرسية إلى وكالة الوزارة لشؤون الآثار والمتاحف، واضعاً بصمته في كل موقع، ومؤكداً أن التعليم والثقافة وجهان لعملة واحدة. وفي رحاب مكتب التربية العربي لدول الخليج حمل هم المشترك التربوي فكان مستشاراً يسعى لتقريب التجارب وتوحيد الطموحات.
ولأن صوته لا يكتفي بالكتب والتقارير تولى رئاسة جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج، حيث امتزجت هويته الثقافية بوعيه الإعلامي فكان جسراً بين ماضي الخليج وافقه بين المحلية والانفتاح.. لقد أدرك أن الإعلام مثل التعليم رسالة لا تختصر في بث أو خبر بل في بناء وعي وهوية.
وعلى صفحات كتبه استقرت ملامح الباحث المدقق، في كتاب الملك عبد العزيز والتعليم رسم صورة المؤسس وهو يشيد صرح المعرفة، وفي كتاب عبد العزيز بن إبراهيم آل إبراهيم وثق سيرة رجل من رجال الوطن الذين صنعوا الأثر.. لم تكن كتبه مجرد توثيق جامد بل شهادات نابضة تعيد للتاريخ دفأه الإنساني وصداه.
ولم تقتصر السيرة على ما كتبه القلم أو ما أنجزته المناصب، بل امتدت لتشمل شهادات رفاق الدرب. يقول عنه الدكتور سعيد المليص، زميل الطفولة والصبا والشيخوخة، "أبو أحمد زميل لا يجارى في إخلاصه لزملائه ودقته في عمله، عرفته تلميذاً في مدرسة بني ظبيان مع شقيقه أحمد، وكلاهما تحت نظر شيخنا جميعاً الشيخ سعد المليص، رحمه الله، وقد كان يوليهما عناية خاصة، تنفيذاً لوصية والدهما الشيخ سعيد بن أحمد أبو راس، رحمه الله، فكان الدكتور عبد الله مثالاً للطالب المجتهد، ثم الموظف أو القائد التعليمي الذي لا تزال لمساته حية في قطاع التعليم، إذ يعود له ولزملائه الأثر الكبير في استخدام التقنية في التعليم، وقد سعدت بصحبته منذ مقاعد الدرس حتى رحاب العمل في وزارة المعارف، ثم مكتب التربية لدول الخليج. كما كان أبو أحمد أشبه بمضيف لكل وافد يصل إلى بلومنغتون، يحسن وفادته ويرسم له الطريق إلى النجاح في دراسته وحياته، وكان ولا يزال الزميل الوفي والصديق الصادق في مسيرة تمتد لأكثر من 40 عاماً، بيت واحد، هدف واحد، ورؤية لا تتبدل.
من بني ظبيان إلى بلومنغتون إلى الرياض تظل سيرة عبد الله أبو راس حكاية ملهمة عن المثقف الذي جمع بين التاريخ والإعلام والتعليم عن الأكاديمي الذي تجاوز حدود القاعات إلى رحاب المجتمع، وعن الإنسان الذي ترك في القلوب أثراً يسبق ما كتبه على الورق. إنها رحلة تؤكد أن المعرفة ليست ترفاً بل طريق إلى البقاء، وأن العطاء هو المعنى الأكمل للحياة.
أخبار ذات صلة
0 تعليق