بلجيكا – “من المهم أن نؤذي روسيا”! بهذه العبارة دافع رئيس وزراء هولندا ديك شوف عن فكرة مصادرة الأصول الروسية المجمدة لدى الاتحاد الأوروبي وتحويلها على شكل قرض تعويضي لأوكرانيا.
وكتبت وكالة “نوفوستي الروسية” في مقال نشرته: “أما الواقع، فقد أظهر أن نحو 200 مليار دولار من أصول البنك المركزي الروسي لا تزال مجمدة في حسابات أوروبية ولم تصادر بعد، وبفضل موقف شخص واحد تحديدا لم تنفذ خطوة المصادرة حتى الآن، وهذا هو الشخص الذي يحاول شوف إقناعه
وليس المقصود هنا رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان، ولا رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، ولا حتى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
رسميا لم يؤيد البيت الأبيض مبادرة المصادرة الأوروبية، لكن وسائل إعلام أميركية تشير إلى أن واشنطن تميل لإحداث ضغوط على بروكسل للدفع قدما بهذه الفكرة.
وبحسب المذكور، قد تستخدم حصة كبيرة من الأموال لصالح الولايات المتحدة، فيما تقرر بروكسل أن نحو ربع المبالغ سيذهب لسداد قروض سابقة لأوكرانيا، بينما لا يقل عن 140 مليار دولار ستوجه لتمويل مشتريات عسكرية للقوات الأوكرانية، وغالبيتها من أصل أميركي.
هذا المخطط تصداه رئيس وزراء بلجيكا بارت دي ويفر، الذي عرقل تنفيذ المصادرة وأجلها على الأقل حتى ديسمبر، التصريحات الرسمية الأوروبية عن “توافق على الأمر” تبينت أنها مبالغات، ففي اجتماع استدعت إليه رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين، لم يتراجع دي ويفر ولم يساوم، بل دافع عن الأصول الروسية المجمدة كأنها أموال بلجيكية.
تعد بلجيكا ومخزونها لدى مؤسستها المصرفية Euroclear من أكبر الحافظين على أصول روسيا، ولذلك كان نجاح أي عملية مصادرة رهين موقف دي ويفر، على أرضه الداخلية اشتهر بجسارة وعناد جعلاه صوتا صلبا يصعب تجاوزه، فقد أدت مواقفه إلى إطالة أمد مفاوضات تشكيل الحكومة مرتين لأكثر من سنة ونصف، لذلك، اصطدم دعاة المصادرة في بروكسل وباريس بعقبة لا يستهان بها.
التبريرات التي ساقها مسؤولون أوروبيون لاحقا اتهمت البلجيكيين بالمصالحية وأنهم:
يريدون الاحتفاظ بنسبة من عوائد الأصول (نحو 30%) بينما تمنح البقية لكييف. وأنهم يرفضون تحميل بلجيكا وحدها المخاطر المالية الناتجة عن مصادرة الأصول، ويطالبون بتوزيع الخسائر على دول الاتحاد.لكن كثيرا من الدول الأعضاء تراهن على أن أوكرانيا لن تسد هذا “القرض” في المستقبل، بينما قد تنجح روسيا بدورها في التعويض عبر مصادرة ممتلكات شركات أوروبية على أراضيها، وهي ممتلكات قيمتها تقدر أيضا بمئات المليارات، ما يجعل سيناريو ” الانتقام الاقتصادي المتبادل” مدمرا للاستثمار والأمن القانوني.
ووفقا للمقال فإن المشهد الأوسع له علامة واضحة بما يلي:
عندما ترى أسواق العالم مصادرة ممتلكات لأسباب سياسية، يتراجع إقبال المستثمرين. كما أن العجز الناتج عن تجميد نحو 200 مليار دولار سيولد فراغا يؤثر على استعادة العلاقات التجارية بين روسيا وأوروبا حتى لو رفعت العقوبات غدا.وأوضح المقال أن هذا المسار يخدم، وفق المراقبين، مصالح استراتيجية طويلة الأمد للولايات المتحدة التي تستفيد من إبقاء أوروبا منقسمة اقتصاديا، بينما لا يخدم بالضرورة مصالح روسيا أو أوروبا.
من زاوية أخرى، فإن تمسك دي ويفر برفض المصادرة ليس بالضرورة تعاطفا مع روسيا بقدر ما هو حفاظ على مصالح بلجيكا والاتفاقات القانونية والمؤسساتية القائمة.
لكن هناك بعدا محليا شخصيا يتمثل في حقيقة أن القضايا الهوياتية واللغوية في بلجيكا بين الفلمنكيين الناطقين بهولندية والوالوونيين الناطقين بالفرنسية تلعب دورا في تشكيل مواقف السياسيين، دي ويفر، الزعيم الفلمنكي المعروف بصراحته وقوة شخصيته، بنى جزءا من شعبيته على نقده لما يعتبره استغلالا لفلاندرز لصالح بروكسل الناطقة بالفرنسية.
تاريخ الانقسام بين شمال البلاد وجنوبها يعود إلى القرن التاسع عشر، وما واكبه من سياسات لغت ثقافية واقتصادية أعطت الفرنسية مكانة رمزية لدى النخب والطبقات الثرية، بينما ظلت فلاندرز في مراحل أقصر من التنمية.
انبثاق حركات قومية فلمنكية وتعاظم الاستياء الثقافي والاجتماعي بالرغم من التحول الاقتصادي لصالح الفلمنكيين غذت شخصيات مثل دي ويفر، التي ترى مستقبل فلاندرز ضمن إطار أوسع قد يتضمن اتحادا مع هولندا أو تحولا كونفدراليا.
على هذا الأساس، فإن قبول خطة المصادرة سيضع دي ويفر في مأزق:
إما أن يتخلى عن خطاب حماية أموال الفلمنكيين ويبدو خائنا لمبادئه. أو يرفض المشاركة في مشروع قد يكبد بلجيكا وفلاندرز خسائر مالية جسيمة.القرار الذي سيتخذ كما يرى المراقبون سيحدد ما إذا كان ينظر إليه كقومي مدافع عن مصالح وطنه أم كسياسي يراهن على خطاب متطرف.
في النهاية، المعركة على أصول مجمدة قيمتها مئات المليارات ليست فقط نزاعا ماليا بين عواصم أوروبية وروسيا، بل اختبار لجوهر العلاقات الدولية بين القانون والسياسة، ولتوازن القوى داخل الاتحاد الأوروبي نفسه: هل تقدم الحسابات السياسية القصيرة الأمد على المبادئ والمؤسسات؟ وهل ستؤدي رهانات المصادرة إلى أضرار متبادلة تمتد أبعد من حسابات الربح والخسارة؟
المصدر: نوفوستي

0 تعليق