لا يملك المرء، إلا أن يُعجب انبهاراً (محباً أم كارهاً)، بالرئيس الخامس والأربعين والسابع والأربعين للولايات المتحدة. إذا كان هناك فضلٌ يُشار إليه لتفسير صعود الرئيس ترمب لسدة الرئاسة الأمريكية، لمرتين تفصلهما فترة رئاسية واحدة، تخللهما عقبات وتحديات سياسية وقضائية ودستورية، فإن ذلك يعود للرئيس ترمب وحده. منذ بداية تفكيره لأن يخوض غمار انتخابات أعلى المناصب السياسية رفعةً ليس في بلاده، فحسب، بل على مستوى العالم، والرئيس ترمب، يتزوّد من موردٍ سياسي واحد (الوصول لذلك المنصب الرفيع، والبقاء فيه)، هادفاً: تغيير قيم ومؤسسات نظام الحكم، الذي يتبوأ سنام السلطة فيه.
هل جاء الرئيس للحكم، بعقلية المقامر، أم بواقعية السياسي؟.. فالمقامرة، هي: قمة المجازفة بكل شيء، للفوز بكل شيء، أو خسارة كل شيء. بينما تقتضي واقعية السلوك السياسي: التطلع لأخذ كل شيء، والرضا ببعض الشيء. والمقامرة تتطلب التهور بطلب كل شيء، للحصول على كل شيء، بينما السياسةُ تتطلب المساومة على أي شيء، للحصول على بعض الشيء.
لم يخفِ الرئيس ترمب، بأن هدفه السياسي الأول: تقويض دعائم (مؤسسات) النخبة السياسية في واشنطن، متهماً إياها بالفساد والعجز. هذا، من وجهة نظره لن يتحقق إلا بالإطاحة بنظام الحكم (الديمقراطي) القائم في واشنطن. توجه أوتوقراطي في الحكم، لم يحاول إخفاءه. نراه يشيد ببعض الأنظمة الديكتاتورية ورموزها البائدة منها، والمعاصرة. كما لا يتحرّج من إبداء إعجابه بالرئيس الروسي، والرئيس الكوري الشمالي، والرئيس الصيني، وببعض حكام أنظمة الحكم السلطوية في العالم الثالث!
إن قيم وحركة الديمقراطية، لها دور في إنتاج أنظمة مضادة، هي نفسها وجدت لتكون بديلاً عنها. النظام السياسي الأمريكي، على سبيل المثال؛ وإن بالغ في تمسّكه بالقيم الليبرالية، بافتراض: أن سلوك وأخلاقيات من يتقلد المناصب العامة، بالذات أكثرها رفعةً (رئاسة الدولة)، لا بد أن يصل إلى مرتبة تَرقى إلى مستوى الملائكة لا البشر. أي شائبة سلوكية (أخلاقية) تَظْهر أثناء اختيار رموز مؤسسات الحكم، بالذات منصب الرئاسة، يُستبعد صاحبها فوراً من مضمار السباق. مثلاً: لو عُرف عن المرشح، أنه: شوهد، ولو لمرة واحدة، وهو يدخن «الماريجوانا»، فإن ذلك كفيل بإسقاط اسمه من قائمة المرشحين.. كما لو ظهرت امرأة، أثناء الحملة الانتخابية متهمة أحد المرشحين، بالاعتداء عليها أو التحرش بها، فإن ذلك كفيلٌ بأن يطيح بالمرشح من صهوة جواده في مضمار السباق.
رغم هذه الصورة النمطية للقادة السياسيين، في الأنظمة الديمقراطية، التي تنظر للساسة، نظرة تقترب من «القدسية» متجاوزة حقيقة النفس البشرية الأمارة بالسوء، نجد أن الرئيس ترمب تجاوز، بعبقرية فذة، هذه العقبة الكأداء، خاصة في حملته الانتخابية للفترة الثانية (الحالية). الشعب الأمريكي وهو ذاهب للإدلاء بصوته لاختيار الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة كان يعرف أن الرئيس ترمب كان متهماً، من قِبَلِ هيئة محلفين في ٣٤ قضية (جنائية)، يُنتظر الحكم بالسجن فيها، بأحكام قد يتجاوز مجموعها مئات السنوات.. كما كانت تنتظره، قضية خطيرة جداً، لو أُدين فيها، فإن ذلك كفيلٌ بحرمانه من العمل السياسي، مطلقاً. التهمة كانت: التآمر على النظام الجمهوري والانقلاب عليه، في أحداث السادس من يناير ٢٠٢٠. كما أن الشعب الأمريكي، يومها كان يعرف: أن الرئيس ترمب يرفض الإفصاح عن ذمته المالية، أو حالته الصحية.
الرئيس دونالد ترمب تجاوز كل تلك العقبات (القانونية والسياسية)، لو توفر جزءٌ ضئيل منها لدى أي مرشح رئاسي لكان كفيلٌ بأن ينهي حياته السياسية، بقسوة وبدون رحمة. الرئيس ترمب يواصل محاولاته المستميتة لتجاوز ممارسات العمل السياسي (الديمقراطي) المرعية، لتحقيق هدفه السياسي، هذه المرة، (البقاء في البيت الأبيض وعدم الخروج منه، بحلول فترة ولايته الحالية). بل أقرب من ذلك (حلول موعد الانتخابات النصفية للكونجرس نوفمبر القادم). في الأثناء: سيحاول جاهداً أن يجهّز المشهد ليحتفظ الحزب الجمهوري بالأغلبية في تلك الانتخابات، حتى يتسنى له إحداث التعديلات الدستورية اللازمة لخوض غمار جولة ثالثة للبقاء في البيت الأبيض، بل، حتى لو احتاج الأمر، استخدام القوة، بعد أن يكون قد تخلص من جنرالاته (التقليديين) الملتزمين دستورياً بالحفاظ على الجمهورية، والذود عن الدستور. الرئيس ترمب لا يرضى بأقل من الولاء المطلق له من نخب البلاد السياسية والعسكرية.
ترى هل يشهد العالم تشييع جنازة الديمقراطية في الولايات المتحدة، ليبقى رئيسها في البيت الأبيض، أو على الأقل ترشحه لفترة رئاسية ثالثة، إن نجح في تعديل الدستور، قبل نهاية فترته الحالية. ليس علينا سوى الانتظار، لنشهد إما سقوط الديمقراطية في أقوى وأعتى وأغنى وأكثر دول العالم تقدّماً، أم انتصارها، بدءاً من نتيجة انتخابات الكونجرس، نوفمبر القادم.
أخبار ذات صلة

            
0 تعليق