في غزة .. اقتصاد ظلّ يزدهر على حساب الجائعين - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

غزة - "الجزيرة نت": في إحدى أسواق مخيم الشاطئ بمدينة غزة، يقف أبو أحمد، صاحب متجر بقالة ورثه عن والده منذ 20 عاماً، أمام أرفف فارغة.
يروي بحزن كيف تحولت تجارته من مصدر رزق مستقر لأسرته، إلى عبء ثقيل يهدد قوت يومهم.
وقال أبو أحمد: "منذ بدء الحرب تغيّر كل شيء، لم يعد السوق سوقاً، ولم تعد القوانين هي القوانين. هناك من يحتكر البضائع بالتنسيق مع الاحتلال، يرفع الأسعار كيفما شاء، ونحن الصغار لا نملك إلا أن نشتري منهم ونبيع للناس بأضعاف مضاعفة".
وأضاف: "كيف أشرح لزبون يريد كيس طحين أن سعره تضاعف 4 مرات، بينما دخله ما زال معدوماً؟" ويؤكد أن ما يعيشه يومياً هو صورة حقيقية لـ"اقتصاد الظل" الذي يلتهم القطاع من الداخل.
وتابع: "الناس يلوموننا نحن الباعة الصغار، بينما الحقيقة أن السوق يُدار من فوق، من تجار يتحكمون في دخول المواد، ونحن مجرد وسطاء مضطرين. في بعض الأيام أتمنى أن أغلق السوبر ماركت، لأن الخسارة صارت أكبر من الربح".

شح في السلع
لم يعد بأسواق غزة سوى كميات قليلة من البضائع التي خزنها التجار أو المواطنون خلال فترة وقف إطلاق النار
وأغلق جيش الاحتلال المعابر في وجه المساعدات الإنسانية والبضائع في الثاني من آذار 2025، ولم يفتحها إلا جزئياً في آب الماضي، وحينذاك سمح بدخول عدد محدود جداً من الشاحنات لا يلبي 15% من حاجات القطاع.
وغالباً ما تتعرض هذه المساعدات للنهب من قبل عصابات منظمة على طرق الدخول.
في حين تدخل بعض البضائع للأسواق بالتنسيق مع تجار يتعاونون مع الاحتلال، فيرفعون أسعارها بشكل مبالغ فيه وسط انعدام قدرة الحكومة الغزية على مراقبة الأسواق، يقول مراقبون.

تجار الحرب الجدد
ترعرع اقتصاد الظل في غزة خلال عامين من حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع، ويقول الصحافي والباحث الاقتصادي، حامد جاد، إن الحروب دائماً تولّد اقتصاداً موازياً "ينشأ هناك اقتصاد ظل، تنشأ أسواق ومعاملات مالية بلا أي أسس قانونية. في هذه الحرب دخل أشخاص لم يكونوا تجاراً أصلاً إلى عالم البزنس. رجل صناعة صار يبيع مواد غذائية، وآخر يبيع أدوية، فقط بحثاً عن الربح السريع".
وأضاف: "المعايير التجارية التي عرفناها قبل هذه الحرب غابت تماماً. الاحتلال سمح بإدخال البضائع لشركات محدودة، لا تتجاوز 10 إلى 15 شركة، وهذه الشركات احتكرت السوق بالتعاون مع أعوانها داخل غزة. والنتيجة: الأسعار صارت غير حقيقية، والناس صاروا أسرى لجشع فئة صغيرة".
أبو وائل عدنان، أحد هؤلاء "التجار الجدد"، يقول صراحة: "لم أكن يوماً تاجراً، كنت أملك ورشة صغيرة للنجارة. لكن مع الحرب توقفت أعمالي، فدخلت تجارة توريد المواد الغذائية عبر معارف ينسقون مع الاحتلال".
وأضاف: "صحيح أنني ربحت، لكنني أدرك أنني صرت جزءا من شبكة غير عادلة. أنا أسوغ لنفسي بأنني أُطعم أولادي، لكن في داخلي أعرف أنني أشارك في لعبة قاسية على حساب الفقراء بعد تدمير الاحتلال للاقتصاد الفلسطيني في غزة".

دمار شامل
يشرح الاقتصادي جاد كيف دمرت سلطات الاحتلال كافة مكونات الاقتصاد الغزي على مدار عامين من الحرب، فـ"كل القطاعات الاقتصادية ضُربت في مقتل. قطاع الإنشاءات كان الأكثر تضررا. نتحدث عما لا يقل عن 100 ألف وحدة سكنية دُمّرت كليا، وأكثر من 200 ألف أخرى تضررت جزئيا. ونسب الدمار في بعض المناطق وصلت إلى 90%. هذا يعني أن البنية التحتية التي كانت أساس الحركة الاقتصادية قد انهارت بالكامل".
وأضاف: إن الزراعة جاءت في المرتبة الثانية من حيث حجم الضرر فـ"الأراضي الزراعية لم تُدمَّر فقط، بل تلوثت بعشرات آلاف الأطنان من المتفجرات. أي محصول يُزرع الآن قد يكون مسمماً. وهذا يعني أن أثر الدمار سيمتد سنوات طويلة، وبالتالي قد تنعدم الزراعة في غزة في المستقبل القريب.
وقال المزارع أبو سامي من رفح: "كنت أزرع البندورة والخيار، وأعيل عائلتي المكونة من 9 أفراد، الآن أرضي محروقة، ورائحة البارود ما زالت عالقة في التراب. جربت أن أزرع قليلاً، لكن الشتلات ماتت بعد أيام. كيف أعيش بلا أرض ولا عمل؟".
قطاع السياحة والمنشآت السياحية لم يعد له وجود أصلاً، أما الخدمات الصحية والإنسانية، فقد طالتها أضرار جسيمة، ولم ينجُ أي مرفق من الدمار الكلي أو الجزئي.
وبالمجمل لم يعد هناك أي مكان سياحي في غزة. فمعظم أو كل الفنادق والمزارات السياحية تمت تسويتها بالأرض.

النقد بات سلعة
من أخطر صور اقتصاد الظل هو تحول "النقد" (الكاش) نفسه إلى سلعة، فمن لديه سيولة نقدية صار يتحكم بالسوق، فكل 100 شيكل كاش يمكن أن تُباع بـ130 أو 140 شيكلاً. بمعنى أن العملة نفسها تباع وتشترى.
هذه الظاهرة ارتبطت بتعطل البنوك ونقص السيولة لأكثر من عام ونصف، فأصبح التاجر يبيع السلعة نفسها بسعر مختلف بحسب طريقة الدفع، فإذا دفعت كاشاً تأخذها بـ100 شيكل، وإذا دفعت عبر التطبيق تدفع 150.
يتحدث محمود، شاب ثلاثيني يعمل في بيع الكاش، عن حجم المأساة التي دفعت شباباً كثراً إلى هذه التجارة، وقال: "أنا لا أملك متجراً ولا بضاعة أبيعها. حياتي كلها انقلبت إلى بيع وشراء النقود. أشتري رصيد البنك من الناس الذين لا يستطيعون سحب أموالهم، وأبيعه نقداً بفارق كبير".
توقف محمود قليلاً ثم أضاف: "أعلم أن هذا يبدو استغلالاً، لكنني أنا نفسي محاصر في هذه اللعبة. منذ توقفت البنوك، لم يعد أمامنا سوى هذه الطريق. في البدء كنت أساعد أصدقائي ومعارفي، ثم كبرت الدائرة وصرت أتعامل مع غرباء، حتى أصبحت هذه مهنتي الوحيدة".
محمود لا يخفي شعوره بالعار، "أسمع الشتائم كل يوم. البعض ينادينا مصاصي دماء، والبعض الآخر يتعامل معنا وهو يلعننا في قلبه. أحياناً لا أنام ليلاً من التفكير. نحن لسنا وحوشاً، نحن مجرد أشخاص نحاول أن نجد طريقة للبقاء".
وقال: "أنا نفسي دفعت الثمن. فقدت ثقة كثير من الجيران والأصدقاء. ينظرون إلي وكأني أستغل معاناتهم. لكن الحقيقة أننا جميعاً ضحايا. هذه السوق السوداء لم نصنعها نحن، بل صنعتها الحرب والحصار، ونحن مجرد أدوات عالقة بين الحاجة والخوف".

أسعار خيالية
يسمح الاحتلال أحياناً بإدخال بعض البضائع التجارية، لكن النتيجة كانت انفلاتاً كاملاً، ففي مراحل معينة كانت السلعة تباع بـ10 أضعاف قيمتها الحقيقية. ورغم أن الأسعار أقل قليلاً الآن، لكنها ما زالت 3 أو 4 أضعاف.
وقالت أم أحمد علوان، ربة منزل من غزة: "أشتري كيلو العدس بـ20 دولاراً، ثم أعود لأجد أطفالي يسألونني: ماما هل هناك لحمة اليوم؟ أضحك وأنا أقول لهم: العدس فيه بروتين. لكن في داخلي أبكي. الأسعار نار، والدخل معدوم. وحتى لو توفرت السلعة، فنحن لا نملك ثمنها".
وأضافت: "كنا في الماضي نعد وجبات بسيطة، لكنها متنوعة. اليوم نعيد الطبق نفسه يوماً بعد يوم. طفلي الصغير صار يرفض الطعام أحياناً لأنه ملّ من الطعم نفسه. أشعر بالعجز وأنا أرى عيونهم تبحث عن شيء غير موجود. الحرب لم تترك لنا طعاماً ولا شيئاً، وكل يوم نكابد معركة جديدة من أجل وجبة واحدة تسد الجوع".
وقالت الناشطة المجتمعية، ألينا اليازجي: "كنا نعرف السوق الشعبي في غزة مكاناً يتنفس فيه الفقراء. اليوم صار ساحة للابتزاز. امرأة جاءتني تبكي لأنها اضطرت أن تدفع 3 أضعاف سعر الدواء لطفلها، إذ الصيدلي يسوغ بأن الاحتلال هو السبب.. أين الرحمة؟".
وأضافت: "لم يعد السوق مجرد مكان للبيع والشراء، بل أصبح مرآة للانكسار. كل امرأة تقف أمام البائع تحمل في قلبها سؤالاً موجعاً: هل ستكفي النقود لما تحتاجه أسرتها؟ رأيت أمهات يساومن التجار على حفاضات أو حليب أطفال كما لو أنهن يساومن على قطعة قماش، إذ البائعون يتعاملون ببرود، كأن هذه الأرواح مجرد زبائن عابرة".
وتابعت: "المؤلم أن بعض هؤلاء التجار ليسوا أغنياء تقليديين، بل أشخاص عاديون قرروا أن يصيروا تجار حرب. يستغلون الحاجة وينسون أن الجوع والمرض لا يتركان لأحد كرامة. في السوق الشعبي اليوم لا يعلو صوت فوق صوت الاستغلال، إذ الفقراء هم الضحية الدائمة".

ثروات من الحرب
وقال جاد وهو يراقب المشهد بعين ناقدة: "في كل حرب يظهر تجار أزمات، هناك من حقق ثروات طائلة خلال العامين الماضيين، وهناك من انسحق تماماً. الخسائر الكلية يصعب حصرها بالأرقام، لأن ما فقدناه لا يُقاس فقط بالمال، بل بالكرامة الإنسانية وحق الناس في عيش كريم. لكن الأكيد أن فئة صغيرة نجحت في تحويل الدم إلى تجارة، بينما الغالبية الساحقة انزلقت نحو الفقر المدقع".
أبو حاتم عبد العزيز، موظف سابق خسر عمله بعد تدمير مصنع الملابس الذي كان يعمل فيه بمدينة خان يونس، يوضح الصورة أكثر: "أرى يومياً مركبات فارهة تدخل أحياءنا بينما بيوتنا مهدمة. هناك من اغتنى في الحرب، وأنا لا أملك ثمن رغيف خبز لأولادي. هذا ظلم مضاعف: ظلم الاحتلال الذي يحاصرنا، وظلم من يستغل حاجتنا ليبني مجده الخاص".
وأضاف: "في زمن القصف، كنا نتقاسم اللقمة بين الجيران، أما اليوم فقد صار الجار نفسه يقف عاجزاً أمام أبواب التجار. البعض لم يعد يرى فينا غير زبائن ضعفاء يمكن ابتزازهم".

0 تعليق