كتبت بديعة زيدان:
في شهادة أدبية، قدمت الكاتبة والروائية الفلسطينية رجاء بكرية رؤيتها الخاصة حول "أثر المكان في الرواية"، خلال مشاركتها في ندوة متخصصة بمعرض عمّان الدولي للكتاب، مساء أول من أمس.
لم يكن حديثها مجرد تحليل أكاديمي، بل كان استبطاناً وجوديّاً وتجربة حيّة تعكس علاقة الكاتب الفلسطيني بالمكان كقضية وهوية وذاكرة نازفة، مستعرضة كيف يتحوّل المكان من مجرد خلفية جغرافية للأحداث إلى شخصية مركزية، وشاهد صامت، وساحة صراع على الوجود والرواية.
بدأت بكرية حديثها بتعريف المكان على أنه مرادف لـ"الحنين"، فهو ليس مجرد بقعة أرض، إنّما "شيء يواجهك ويغمرك دون أسئلة".
في رؤيتها، يمتلك المكان قوة صامتة، فهو كالسماء، لا يقدم إجابات سهلة، بل "يجعل رأسك تفاحة كبيرة لا تأكل ولا تؤكل".. هذه العلاقة الوجودية تجعل من المكان قوة فاعلة تتحدى الكاتب وتستدعي منه ذاكرة ووعياً لا ينفصلان عن الجسد والروح، فهو لا ينسى حتى وإن نسينا، ولا يموت حتى وإن رحلنا، ويملك "طاقة عجيبة في كتابة التاريخ وإشهاره".
وتطرقت بكرية إلى الصراع المحتدم على سردية المكان، طارحة تساؤلاً جوهرياً حول من يملك الحق في كتابة الحكاية ورسمها، خاصة عندما يصبح "مواطني البسبور الأزرق" هم من يسيطرون على المشهد.
في حوار متخيل مع "الكاتب اليهودي"، تواجهه بحقيقة أن مدناً كـ"يافا" و"عكا" ليست مجرد أماكن في رواياته المترجمة، بل هي تاريخ حي وكيانات لها ذاكرتها الخاصة التي تسبق روايته.
من هنا، يصبح فعل الكتابة لدى الروائية الفلسطينية فعل مقاومة واستعادة، فهي "تغلق أسوار عكا على ورق روايتها الجديدة" و"ترشق موج يافا على غلافها"، لتعلن بذلك امتلاكها للمكان بروحه وبحره وجبله، وليس فقط بالحبر والورق.
تتعمق الرؤية لتصف علاقة تكاد تكون عضوية بين المكان والجسد، فالمدن التي ضاعت لم تعد مجرد ذكريات بعيدة، بل أصبحت جزءاً من الكينونة الجسدية للكاتب: "المدن وباتت تتنقل في بدني بكرسي متحرك، عاجزة عن احتجاجاتها الباسلة".. هذه الصورة البليغة تعكس حجم الألم وشلل الحاضر أمام ضياع الماضي، فالمكان الجريح يسكن جسد الكاتب، والذاكرة "تنزف بلا آخر" كدم لا يتوقف، ما يجعل الكتابة عملية شفاء ومواجهة لهذا النزيف المستمر.
واختتمت بكرية شهادتها بتأكيد أن المكان هو الشاهد الأبدي الذي لا يمكن محوه، "سيلاحق البشاعة والدمامة شأن النضارة، لأن المكان لا ينسى"، فهو الذي يدمر ويشفي في آن واحد، وهو الذي يحتفظ بالحقيقة في وجه محاولات الطمس، مؤكدة أن الرواية الفلسطينية، كما تقدمها الكاتبة، ليست مجرد فن، بل ضرورة وجودية للحفاظ على "الشعب الوحيد الذي يستنسخ مدنه مكعبات من الشوكولاتة، ويأخذها معه أينما حلّ حتى إذا ذابت تذوب في جيوبه".. إنها محاولة لإبقاء الذاكرة حية، والتأكيد على أن المكان سيظل حاضراً في الروح والكلمة، حتى وإن غاب عن الخارطة.
وفي الندوة، التي أدارها الأكاديمي الأردني د. طه درويش، عرّف الروائي الأردني مجدي دعيبس المكان بـ"الوعاء الذي يحتوي الرواية"؛ فالشخصيات بحاجة لفضاء تتحرك فيه، والأحداث تتطلب مساحات وأبعاداً، مستعرضاً تجربته في روايته "حكايات الدرج" التي تدور أحداثها في عمّان القديمة، حيث قام ببحث دقيق عن "درج" غير موجود على أرض الواقع حالياً، مستعيناً بخرائط قديمة تعود للعام 1881 رسمها مسّاح بريطاني.
أما الروائي الأردني د. محمد عبد الكريم الزيود، فأشار إلى أنه تحدث عن مدينة القدس في رواية "فاطمة"، على الرغم من عدم زيارته لها، لكنه اعتمد على الخرائط وقراءة كتابات معن أبو نوّار، وتناول معركة كتيبة الحسين الثاني في تل الذخيرة والشيخ جرّاح، ملاحظاً أن العسكر هم أكثر من يرتبطون بالتراب، مؤكداً أن روايته "إسعيدة"، وهي اسم قرية أردنية تحولت إلى مدينة الهاشمية تعبّر عن "التحولات الاجتماعية والاقتصادية في الأردن"، وكيف تم "الاستيلاء عليها".
0 تعليق