‏ من كولبير إلى كيميل: الإعلام الأمريكي يخسر حريته - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تعد البرامج التلفزيونية المسائية الأميركية لأشهر رجال الكوميديا العالمية- مثل جيمي كيميل وستيفن كولبير- ممن ‏عرفوا بالبراعة الفائقة في إلقاء النكات السياسية، مصدرا أساسيا في تزويد ‏الشارع العام الأميركي بالأخبار اليومية في تناول ساخر ‏أحيانا كثيرة لا يعجب ممن هم على سدة الحكم في البيت الأبيض.

لعبت مثل هذه البرامج الترفيهية المسائية دورا غير مباشر في التغطية السياسية السلبية ضد الرئيس السابق بيل كلينتون في فترة رئاسته الثانية أثناء تغطية مداولات الكونغرس الأميركي بشأن اتهامه في قضية مونيكا لوينسكي المتدربة السابقة في البيت الأبيض.

‏لم تشفع للرئيس السابق بيل كلينتون إنجازاته الاقتصادية الضخمة في فترة التسعينيات ولا السلام العالمي السائد حينئذ -بعد انهيار الاتحاد السوفياتي- في احتواء هذه التغطية الإعلامية السلبية، مما كان لها الأثر غير المباشر في خسارة الحزب الديمقراطي الأميركي الانتخابات الرئاسية عام 2000 لصالح المرشح الجمهوري جورج بوش الابن.

حين يخشى القادة ‏الطرفة السياسية

‏ تناول الكوميدي الأميركي جيمي كيميل- ‏المعروف بسخريته اليومية اللاذعة من ‏الرئيس الأميركي ترامب-‏ مقتل الناشط الأميركي اليميني الشهير تشارلي كيرك محاولا إلقاء تهمة انتماء القاتل للتيار اليميني، ‏مما أثار الحنق ‏في أوساط ذلك التيار، مطالبين بإلغاء برنامجه الكوميدي.

‏زادت الضغوط السياسية اليمينية على قناة "آي بي سي" – التي تستضيف برنامج كيميل- حينما أدلى برندان كار- رئيس لجنة الاتصالات الفدرالية الأميركية المسؤولة عن تنظيم لوائح الإعلام الأميركي- بتصريحات مهددا فيها قناة "آي بي سي"، ومطالبا إياها بإلغاء برنامج الكوميدي كيميل، أو مواجهة عواقب رفضها هذا الطلب. ‏

سارع العديد من أعضاء الكونغرس الأميركي البارزين-‏ بمن فيهم بعض الموالين للرئيس الأميركي ترامب، مثل عضو مجلس الشيوخ الأميركي تيد كروز- للتنديد بتصريحات برندان كار باعتبارها دعوة لتضييق الخناق على حرية الإعلام الأميركي مما يعد سابقة خطيرة تصيب صميم السلطة الرابعة للديمقراطية الأميركية في مقتل.

إعلان

استمر توقف البرنامج ستة أيام قبل أن تنجح ضغوط الشارع في عودته للبث يوم الثلاثاء 23 سبتمبر/أيلول الجاري، ما مثل انتصارا نادرا للتيار المعارض للرئيس الأميركي ترامب، وأثار التفاؤل بإمكانية توسيع دائرة المعارضة ضده لإنقاذ الديمقراطية الأميركية، وحرية الصحافة والإعلام فيها.

الرئيس ترامب سعى من جانبه إلى التأثير على وسائل الإعلام الأميركية من خلال رفع القضايا ضدها وإجبارها على الوصول إلى تسوية تحقق أهداف الرئيس في ‏السيطرة على هذه القنوات الفضائية. ولقد نجح نجاحا منقطع النظير في الفترة القصيرة التي وصل فيها البيت الأبيض في الضغط على ‏بعض وسائل الإعلام الأميركية لعمل تسويات مالية، مثل تسويته الأخيرة مع قناة "سي بي إس"، والتأثير عليها لإلغاء ‏برنامجها الكوميدي الليلي الشهير لستيفن كولبير الذي استمر أكثر من ثلاثة عقود، ‏وذلك بسبب تغطيته الفكاهية السلبية ضد الرئيس ترامب.

والجدير بالإشارة هنا أن موافقة قناة "سي بي إس"، للتسوية القانونية مع إدارة الرئيس الأميركي ترامب، جاءت ‏على خلفية القضية المرفوعة من الرئيس ضدها حول تعديل محتوى برنامجها ‏ذائع الصيت "60 دقيقة" ‏للمقابلة الشهيرة مع المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية العام الماضي.

وافقت قناة "سي بي إس" على تسوية مالية قدرها 16 مليون دولار أميركي تتبرع بها القناة لصالح مكتبة ‏الرئيس ترامب المقرر إنشاؤها بعد انتهاء فترة ولايته الثانية.

بيدَ أن الكاتب إدوارد هلمور في الغارديان البريطانية يعتقد أن موافقة قناة "سي بي إس" على دفع التسوية المالية، جاءت تمهيدا لكسب رضا ترامب؛ لتسهيل موافقة إدارته ‏على عملية بيع الشركة المالكة للقناة في صفقة قد تتجاوز أكثر من 8 مليارات دولار أميركي.

‏ ‏ترامب والإعلام اليميني

لعبت الصحافة الأميركية ‏منذ نهاية الحرب العالمية الثانية دورا بارزا في تشكيل الرأي العام الأميركي، وفضح الكثير من الممارسات السياسية الخاطئة الخفية للإدارات الحكومية، سواء كانت ديمقراطية أم جمهورية. ‏

وصلت ذروة تأثير الصحافة الأميركية الحرة على السياسة الأميركية في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، عندما كشف الصحفيان الشابان العاملان في صحيفة واشنطن بوست الشهيرة، بوب وودوارد وكارل بيرنشتاين، فضيحة ما يعرف بـ "ووترغيت"، وذلك من خلال ربط عملية التجسس في بناية الحزب الديمقراطي الأميركي من قبل إدارة الرئيس السابق ريتشارد نيكسون بالرئيس الأميركي نفسه.

‏لم يجد الرئيس الأميركي وقتها إعلاما نصيرا له يُكذب هذه الحقائق الواضحة ويشوهها أمام الرأي العام الأميركي، لذلك لم يكن بحوزة الرئيس نيكسون ما يفعله سوى تقديم استقالته حتى يتجنب اتهامه ومحاكمته من قبل الكونغرس الأميركي.

جاءت استقالة الرئيس الأميركي نيكسون كشهادة تاريخية على أهمية الدور العظيم للإعلام الحر في كشف فضائح الحكم التي تحاول شتى الإدارات الحكومية إخفاءها عن الشعب الأميركي. ولولا العفو الرئاسي لإدارة الرئيس السابق فورد، لكان مصير الرئيس نيكسون الحياة خلف القضبان الحديدية لسنوات عديدة.

‏كان من الآثار المترتبة على فضيحة "ووترغيت"، إدراك بعض قادة التيار اليميني المحافظ في الولايات المتحدة مدى أهمية الإعلام في تشكيل الرأي العام، وكذلك ‏ملاحظة غياب المناصرين لقضاياهم في وسائط الإعلام الأميركية المختلفة.

وعليه جاء التفكير في إنشاء قناة إعلامية إخبارية -قناة فوكس نيوز- لتكون ‏منتدى إعلاميا للأصوات المحافظة الأميركية، وبديلا للوسائط الإعلامية الرئيسية التي غالبا ما تُتهم بأنها ذات ميول ليبرالية، مثل قنوات "إيه بي سي"، و"إن بي سي"، و"سي بي إس". ‏ ‏

جذبت قناة فوكس نيوز الإخبارية المشاهدين ذوي الميول المحافظة، وخاصة في أوساط الحزب الجمهوري الأميركي، حتى أصبحت كأنها قناة تابعة للحزب الجمهوري.

إعلان

‏والجدير بالإشارة هنا أن إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما قد حاولت ‏في مستهل عهدها معاملة هذه القناة ‏كهيئة حزبية للحزب الجمهوري، وحرمانها ‏بالتالي من بعض الفرص المتاحة للقنوات الإعلامية الأخرى،‏ في إجراء المقابلات الإعلامية مع المسؤولين الحكوميين، إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل، حينما سارعت الوسائل الإعلامية الأخرى في مساندة قناة فوكس نيوز، ‏مما اعتبرته الأخيرة ‏حينها نصرا لها ضد إدارة الرئيس السابق أوباما.

‏استفاد الرئيس الأميركي ترامب فائدة عظيمة من وجود قناة فوكس نيوز وتغطيتها المستمرة الإيجابية لحملاته الانتخابية ‏وخطاباته وفعالياته السياسية مما أكسبها مكانة خاصة لديه.

‏كما ارتبط أيضا بعلاقات صداقة شخصية ببعض العاملين بقناة فوكس نيوز، لذلك ليس مستغربا أن يقع اختياره على بعض الإعلاميين بها لشغل الوظائف الرفيعة في إدارته مثل وزير الدفاع الحالي.

جاء الرئيس ترامب من خلفية إعلامية قادرة على جذب الانتباه العام وتغيير مجرى التغطية الإعلامية لتكون لصالحه ‏على الدوام، ساعده في ذلك أنه نشأ كرجل تحيط به التغطية الإعلامية منذ دخوله مجال الاستثمارات العقارية في مدينة نيويورك، وغيرها ‏من المدن الأميركية الأخرى، وكذلك من خلال علاقاته بالأوساط الفنية ‏وتقديمه أحد برامج تلفزيون الواقع الشهيرة حول الاستثمار وريادة الأعمال التجارية.

‏وبينما تقوم علاقة الرئيس ترامب الحالية مع قناة فوكس نيوز على الود والتناغم شبه الكامل، فإن علاقته مع بقية أجهزة الإعلام الأخرى يغلب عليها طابع التوتر والخصومة لدرجة التقاضي عند المحاكم الأميركية.

‏أساليب أخرى

حاول ترامب أيضا السيطرة على ‏عملية التغطية الإعلامية في البيت الأبيض الأميركي، ‏عندما سمح لبعض الناشطين الإعلاميين المحافظين ‏في الوسائط الإعلامية الاجتماعية بالحصول على ترخيص للتغطية الإعلامية في البيت الأبيض، مقابل استبعاد أولئك الذين يعتقد الرئيس وإدارته الإعلامية أنهم يشكلون صوتا ‏معارضا ‏غير منصف في تغطيتهم الإخبارية لسياسات إدارته وممارستها السياسية.

كما استخدم ترامب سياسة تجفيف المنابع المالية الفدرالية للإعلام الأميركي العام- مثل القناة الإعلامية الأميركية الرصينة "بي بي إس" – بإلغاء الدعم الفدرالي لها، مما سيتسبب في إغلاق فروعها العديدة في الولايات والمدن الأميركية.

هذه القناة هي أشبه بالقناة البريطانية "بي بي سي"، التي تحاول دائما تقديم صوت محايد في تناولها الأحداث السياسية اليومية، ‏ولكن إدارة الرئيس الأميركي ترامب تتهم هذه القناة وفروعها ‏بانحيازها للتيارات اليسارية في الولايات المتحدة.

‏كما ظهرت ضغوط ترامب السياسية أيضا على صحيفة واشنطن بوست التي يمتلكها الثري العالمي الشهير جيف بيزوس -مالك شركة أمازون- حيث رفض الأخير السماح للصحيفة ‏باختيار مرشحها المفضل في الانتخابات ‏الرئاسية الأخيرة، كما جرت العادة في الانتخابات الرئاسية السابقة.

‏وكذلك قرار بيزوس حصر مواضيع المقالات الافتتاحية للصحيفة في مجالي الحريات الشخصية، واقتصادات السوق الحر فقط؛ مما أدى إلى هجرة بعض الأقلام الصحفية ‏العريقة من هذه الصحيفة ذات التاريخ الضارب في جذور الإعلام الأميركي.

‏لا شك أن الكثير من الإدارات الحكومية الأميركية السابقة، وجدت صعوبة في بعض الأحيان في التعامل مع وسائل الإعلام الأميركية، ولكنها لم ‏تحاول أبدا السيطرة عليها أو مقاضاتها في المحاكم الأميركية مثلما يحدث الآن في عهد إدارة ترامب.

يشير سجل ترامب حتى الآن إلى نجاح لم يكن يتوقعه الكثيرون في محاولة السيطرة على الإعلام الأميركي، ولكن ربما لا تنجح محاولاته كثيرا في حال تدهور الأوضاع الاقتصادية، أو ظهور فضائح سياسية جديدة تزيد من تعقيد المشهد السياسي، وتثير حنق قاعدته الانتخابية والرأي العام الأميركي عموما، حينها سيلتف الشارع الأميركي حول وسائل الإعلام الأميركية ‏التي ربما تجد في ذلك الوقت فرصة ذهبية للنيل من رئيس طالما عجزت عن مناوشته وإلحاق الهزيمة الإعلامية به.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق