لا يمكن اعتبار العلاقة بين الأردن وفلسطين مجرد علاقة جغرافية، بل تمتد إلى عمق التاريخ والهوية والنسيج الاجتماعي والسياسي، فقبل نكبة عام 1948، لم تكن هناك حدود دولية بين المنطقتين، بل كانت الأراضي متداخلة ومتصلة من حيث العشائر والقبائل والتجارة والتنقل.
كانت فلسطين والأردن تحت الحكم العثماني، ثم خضعتا لـ الانتداب البريطاني (الأردن ضمن شرق الأردن، وفلسطين ضمن فلسطين الغربية)، وبعد النكبة نزح مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى الأردن، مما جعل النسيج السكاني أكثر تداخلا.
بين عامي 1950 و1967، كانت الضفة الغربية جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية، وكان هناك برلمان موحّد يضم نوّابا من الضفتين، وبعد احتلال إسرائيل للضفة عام 1967، وُلدت مسألة "الهوية الوطنية" بين الضفتين، وبدأت مرحلة جديدة من التحديات السياسية.
في عام 1988، أعلن الأردن فكّ الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية، تمهيدا لتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم.
قلب واحد ببطينين
لا يمكن فصل القضية الفلسطينية عن السياسات الأردنية، فالموقف الرسمي والشعبي الأردني لا يزال يضع فلسطين في قلب الأولويات.
فالأردن وفلسطين "قلب واحد ببطينين" يجسد الواقع تماما، فهما يعملان بتناغم رغم الضغوط، فقد خاض الشعبان معا معارك الدفاع عن الأرض، سواء في القدس أو الكرامة أو غيرها، وكان الدم الأردني إلى جانب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال.
لقد كان الأردن -ولا يزال- الضفة الشرقية لنهر الأردن، وبوابة الفتح الإسلامي لبيت المقدس، ومنطلق جيوش الصحابة نحو تحرير أرض الإسراء والمعراج، على أرضها سُطّرت معارك الإسلام الأولى، ومنها مرّ جيش الفاروق عمر بن الخطاب نحو القدس، وفيها ارتقى قادة كبار كأبي عبيدة عامر بن الجراح ومعاذ بن جبل، وشهداء الطاعون من الصحابة.
الأردن لم يكن يوما بعيدا عن القدس، بل ظلّ أرض رباط لحمايتها، ودرعا لصدّ العدوان عن قدس الأقداس، ومأوى للمجاهدين والمرابطين.
إعلان
وفي ظل التحديات المعاصرة، يواصل الأردن دوره التاريخي والشرعي في رعاية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف من خلال الوصاية الهاشمية، مؤكدا أن حماية القدس عقيدة قبل أن تكون سياسة.
" frameborder="0">
مسؤولية تاريخية ودينية
منذ بدايات الدولة الأردنية، اعتبر الهاشميون أن حماية المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس مسؤولية تاريخية ودينية لا تقبل التراجع، ولا تتغير بتغير السياسات أو الظروف.
وحتى بعد فكّ الارتباط القانوني والإداري بين الضفة والأردن عام 1988، بقيت الوصاية الهاشمية على القدس حاضرة بقوة، معترفا بها عربيا ودوليا، ومجسّدة على أرض الواقع من خلال مشاريع الترميم والدعم والرعاية المستمرة.
وظلّت المملكة الأردنية الهاشمية ملاذا آمنا للشعب الفلسطيني طوال فترة الاحتلال الإسرائيلي، فكان التلاحم بين الشعبين الشقيقين ركيزة ثابتة في مواجهة النكبات والتحديات.
وفي كل مراحل العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، كانت المملكة الأردنية الهاشمية في طليعة الداعمين، والمتصدّرة دائما في إغاثة أهلنا في الضفة الغربية وسائر فلسطين.
فالأردن لم يتخلّ يوما عن دوره القومي والإنساني، ولبّى نداء الدم والدين والواجب، فكانت القوافل، والمستشفيات الميدانية، والطواقم الطبية، والمساعدات الإغاثية تتوالى إلى الضفة وغزة على حد سواء.
وكأنّ الأردن يقول دوما "فلسطين كلها تمثل الضفة الغربية لنهر الأردن، ونحن لها سند وجار وظهر لا ينكسر".
فكلما اشتدّ الحصار أو اشتعل العدوان، كان الأردن أول المستجيبين، دون منّة، بل انطلاقا من عقيدة راسخة وموقف لا يتغير.
فالعائلة الهاشمية لم تكن يوما مجرد قيادة سياسية، بل كانت وما زالت حامية للإرث العربي والإسلامي في فلسطين، وراعية للوحدة والكرامة والمصير المشترك بين الأردن وفلسطين.
وحدة الدم والمصير
منذ نكبة عام 1948، فتح الأردن أرضه وقلوبه للفلسطينيين الذين هجّرهم الاحتلال، فكانت المملكة الأردنية الحضن الدافئ والمأوى الآمن، واحتضنت على أراضيها العدد الأكبر من أبناء فلسطين.
ولم يأتِ هذا الاحتضان من باب العاطفة فقط، بل من وحدة الدم والمصير، فتشارك الأردنيون والفلسطينيون بناء الدولة الأردنية، وعمّروها بسواعدهم الحرة الشريفة، في كافة ميادين العمل والعطاء، في التعليم والصحة والبناء والمؤسسات والجيش والمجتمع.
كانت الدولة الأردنية ثمرة تكافل لا يعرف التفرقة، ووطنا قائما على الوحدة، لا على الحدود، يجمع أبناء الضفتين تحت راية واحدة، وقلب واحد، وأمل واحد.
هذا النهج الثابت استمر منذ عام 1967 وما بعده، حيث حافظ ملوك بني هاشم -بكل أمانة ووفاء- على صلة الروابط الأخوية بين ضفتي نهر الأردن، رغم تبدّل الظروف وتقلب الأحوال السياسية في المنطقة.
فلم تكن العلاقة بين الأردن وفلسطين خاضعة للحسابات المؤقتة، بل كانت علاقة راسخة الجذور، تقوم على وحدة الأرض والمصير، وارتباط الهوية والتاريخ، مما جعل البوصلة الهاشمية دوما متجهة نحو حماية الحقوق الجغرافية والسيادية لكلتا الضفتين.
وبقيت القدس وفلسطين في وجدان القيادة الهاشمية، قضية مركزية لا مساومة عليها، وحقا لا يسقط بتغير الزمن، بل يزداد رسوخا وشرعية.
الدور الأول والأبرز
منذ اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، وحتى يومنا هذا، كان للهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية الدور الأول والأبرز في دعم وإغاثة الشعب الفلسطيني أينما وجد، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة.
إعلان
فقد بادرت الهيئة، بإشراف مباشر من القيادة الهاشمية، إلى إرسال مئات بل آلاف الشاحنات المحمّلة بالمساعدات الإنسانية والإغاثية، من غذاء ودواء ومواد إعاشة أساسية، بشكل متواصل وعلى مدار سنوات طويلة.
ولم تقتصر هذه الجهود على فترات الطوارئ، بل استمرت بشكل منظم، مما جعل من الأردن جسرا إنسانيا دائما لفلسطين، وركنا ثابتا في معادلة الصمود والمساندة.
لقد جسّد هذا الدعم المتواصل التزام الأردن التاريخي والإنساني تجاه فلسطين، وشكّل نموذجا حيا للتضامن العربي الحقيقي، بعيدا عن الشعارات، وقريبا من معاناة الناس واحتياجاتهم.
" frameborder="0">
الدعم في ظل الإبادة
ومنذ بداية الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، جدّدت المملكة الأردنية الهاشمية، عبر قواتها المسلحة والهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية، موقفها الثابت والداعم للشعب الفلسطيني، فأرسلت آلاف الشاحنات المحمّلة بالمساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، في واحدة من أكبر حملات الإغاثة التي يشهدها القطاع.
ولم يقتصر الدعم الأردني على المساعدات الغذائية والطبية، بل تجلّى كذلك في استمرار عمل المستشفيات الأردنية الميدانية، وعلى رأسها مستشفى الجيش الأردني في قطاع غزة، الذي ظل صامدا في قلب العدوان، مقدّما الرعاية الصحية للجرحى والمصابين، فضلا عن عدة مستشفيات ميدانية أردنية أخرى أُقيمت في الضفة الغربية لتلبية الاحتياجات الطبية الطارئة.
هذا الدور الإنساني والطبي المتواصل يعكس التزام الأردن، قيادة وشعبا، برسالته القومية والإنسانية، ووقوفه المبدئي إلى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل الحرية والكرامة.
تحفيز المؤسسات الأردنية
لقد كان الملك عبد الله الثاني راعيا مباشرا وأساسيا في تحريك أبناء الشعب الأردني لتقديم كل الدعم الممكن والمتاح لأهالي قطاع غزة، وهو ما يتطلع إليه الجميع ويأملونه، حفاظا على الرعاية الهاشمية المستمرة لفلسطين وشعبها العزيز.
ومع استمرار العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، تتطلع الآمال الكبيرة إلى الملك، ليبقى رائدا في تحفيز المؤسسات الأردنية كافة لتكون فاعلة ونشطة في إتاحة المجال أمام أبناء الأردن جميعا، كي يواصلوا دعم إخوانهم وأهلهم في غزة، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يمرون بها، إضافة إلى دعم الضفة الغربية المحتلة.
فدور الملك عبد الله يمثل نبراسا في مسيرة التضامن والتآخي، ويعكس الإرث الهاشمي العميق في خدمة القضية الفلسطينية، وحماية الحقوق الوطنية، والوقوف مع المظلومين في كل زمان ومكان.
" frameborder="0">
تهديد المحيط العربي
لهذا الهدف السامي الكريم، نرى أن الرعاية الملكية لأعمال الخير ومؤسسات المجتمع المدني تشكل هدفا إستراتيجيا تجب تقويته وتعزيزه بكل الإمكانيات التي تملكها الدولة الأردنية، كما ينبغي أن تكون الإرادة الشعبية الأردنية منارات يُعتز بها ويُفتخر، ترفع من مكانة الأردن عاليا في المحافل الإقليمية والدولية.
لقد أثبتت الحرب الإسرائيلية الظالمة على غزة بما لا يدع مجالا للشك، أن دولة الاحتلال لا تكتفي بتهديد الشعب الفلسطيني فحسب، بل باتت تهدد المحيط العربي برمته، معيدة طرح مشروعها الاستعماري المسمى بـ"إسرائيل الكبرى"، وهو مشروع يشكل تهديدا مباشرا وكبيرا للدول العربية المجاورة لفلسطين الجغرافية.
إنّ هذه المرحلة الحاسمة في التاريخ تتطلب تعزيز الوحدة الوطنية الداخلية بين جميع مكونات المجتمع الأردني، بما يعزز تماسك الجبهة الداخلية في مواجهة التهديدات الإسرائيلية، كما تتطلب رفع جاهزية المؤسسات الأردنية بكل مكوناتها، لتكون قادرة على خدمة المجتمع الأردني أولا، ومواصلة دعم فلسطين وشعبها، بما لا يترك مجالا لمحاولات ضرب الوحدة العربية أو النيل منها.
كذلك، هناك حاجة ملحّة إلى تعزيز دور المؤسسات الخيرية العاملة في الأردن، وزيادة فاعلية الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية، والهلال الأحمر الأردني، لتكون أكثر قدرة على الاستجابة للتحديات الحالية.
إعلان
ومن الضروري أيضا فتح أبواب الخير أمام الجمهور الأردني المعطاء، بما يلبّي الاحتياجات داخل الأردن، بالتوازي مع دعم أهلنا في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، الذين يواجهون إبادة جماعية غير مسبوقة، تُنذر بتهجير قسري جديد قد يكون أشدّ وأوسع مما سبق، مما يجعل من المملكة الأردنية الهاشمية إحدى أهم ساحات هذا التهديد لا قدّر الله.
وهو ما يتطلب تضافرا وطنيا وجهودا مضاعفة على جميع المستويات: الرسمية والشعبية والمؤسسية لمواجهة التحديات، والوقوف سدا منيعا في وجه كل مشاريع التصفية والتهجير.
0 تعليق