حاوره زياد خداش:
حين اندلعت الحرب المجنونة على غزة كان ناصر في سورية، في زيارة ثقافية وشخصية، عاد بعدها إلى القاهرة وحتى الآن هو هناك، يتمزق مع كل صاروخ، يتخيله متجهاً الى أصدقائه وعائلته.. عائلة ناصر ما زالت في غزة تنزح لعشرات المرّات، بيته قصف، ومكتبته تمت إبادتها.
يكتب ناصر نص البلاد الصاخب بالمشاعر المباشرة الخالية من الغموض الذي لا يتناسب مع وضوح جِراح بلاده.. الانتماء لغزة ثقافةً وحياة، وأصدقاء، وذاكرة الأجداد هما شعاراه، تسكنه "يازور" كقرية أصلية، وتعيش فيه غزة بشوارعها ومكتباتها.. هذه دردشة معه:
* ما هو أول شيء ستفعله حين تعود إلى غزة؟
- إذا عدتُ إلى غزة بعد محاولات إبادتها، سأتفقدها قطعة قطعة، شبراً شبراً، وشارعاً شارعاً، حتى النوافذ المتبقية منها سأقف أمامها عند المغيب، لأسمع ما تقوله لها الشمس قبل طمسها في البحر، لن أنسى تفقّد حارتي التي أعيش فيها من حاووز الماء المدمر إلى حقول الباذنجان والبطاطا، إلى الحمامات الزراعية، وأحواض المياه الجامعة من أمطار الشتاء.
سأبحث عن بيتي المقصوف، سأفتح ذراعيّ لبوابته السوداء إن كانت مكانها، وأدخل بقدمي اليمنى بهدوء المحزون حتى لا أزعج بقايا الأزهار التي صمدت بكل عنفوانها أمام العطش.
سأدخل إيوان البيت المطل على المكتبة، وأنظر مليّاً بالفراغ الذي خلفه تحطمت الجدران، سأنزل نظري إلى الأرض لكي أنقّب بيدٍ حانية عن كتبي المتبقية، سأرفع عنها الردم والغبار، وأفتح ذاكرتي على شرفاتها الواسعة، كي أمرر تعب مؤلفيها على كل كتاب حُرق أو مُزّق، أو جُرح من أسفله، لن أتخلى عن أي كتاب سأتركه شاهداً على الإبادة المؤلمة.
سأدخل بيتي وأجلس كناجٍ بدهشة من هجمات القلق على عائلتي وأولادي، سأعانقهم قبل أي شيء فعلته أعلاه، سأفتش في عيونهم عن صورتي الغائبة، وسأسمع نبض قلوبهم وهي تحكي لي عن أيامهم الدامية، سأطرد من وجدانهم إحساسهم بأن العالم خذلهم.
سأشرب ماء بيتي مهما تغير طعمه، مهما اصفرت أوانيه، وسأطلب وجبة خفيفة لأدخل غرفة نومي وأمدد جسمي المتعب على سريري الذي اشتقت له، لعلي أنام بنعس أصيل، كأنني لم أنم من قبل.
إن استطعت النزوح بروحي إلى أقاصي الخيال، لرتبت الأمنيات تصاعدياً، ودخلت كل بيت كنت قد دخلته من قبل حتى ولو كان مدمراً، لأشرب فوق ركامه شربة ماء وأزرع شتلة من حزني عليه، وأمضي، سأدخل المسجد الذي كنت أصلي فيه، أبحث عن صوت المؤذن الشجي، وأترحم على روحه التي فاضت بفعل قصف وحشي طاله وهو يحاول أن ينادي على المصلين فجراً.
سأبحث عن أصدقائي حيث تركتهم آخر مرة، سأطرق باب المكتب المكيف في مبنى اتحاد الكتّاب، وسأتذكر سليم النفار الذي كان يحرق سجائره غير آبهٍ لتغليظ المكيف للهواء، وعجنه بدخان السجائر، ونحن نستنشقه بغلظة مضطرين للسكوت حتى ينتفض أحدنا ليطلب بصوت مرتفع من سليم أن يخرج من الغرفة ليدخن سيجارته، وأي طلب هذا وسيجارة سليم قطار طويل المسافات.
سأزور مول "بيت اللحوم" المدمّر، حيث كنت أصطحب زوجتي إليه كي اصالحها من شجار لطيف وقع بيننا في ليلة ماضية، سأبحث في حطام نوافذه عن جملة كانت تستفزني جداً، وبسببها قاطعت المول لأشهُر غير مكترث لمصالحات زوجتي الطيبة، وهي عبارة: "نخدمكم بثقة، وراحتكم مطلبنا"، وكأننا كنا نسحب السلع منه بالمجان.. "أسعاره كانت في السماء"، كنت أشعر أن أصحاب المول يسخرون منا، لذا طلبت من صاحبه ذات مرة أن يريحنا من جملته هذه.
سأذهب إلى ميناء غزة، لأتفقد النوارس، وأسأل عن الشهيدات منها، وماذا فعلوا بمجاعتهم بعد موت الأسماك في البحر، سأفتش بين الصخور القليلة عن رسائل العشاق، وأحجيات الكتّاب البحريين، وسنانير الصيادين المبتدئين، سأقف على حجر ضخم من تلك الحجارة التي وقفت عليها ذات يوم مع سمير التميمي، والراحل الباحث جهاد صالح، سأغادر الميناء وأنا حزين على علي بكر صاحب كشك العصائر والبسكويت الذي استشهد مع جميع أفراد أسرته، وهو يحاول النجاة.
لن أترك المدينة المدمرة قبل أن أذهب إلى مكتبة ديانا تمارا في مركز رشاد الشوا الثقافي، لعلي أجد بصماتي على بعض الكتب التي دمّرتها الطائرات في يوم معتم وعتيم كان ذلك في شهر تشرين الثاني 2023.
* لمن تشتاق هناك يا ناصر؟
- أشتاق لنفسي في خان يونس، في غزة، في رفح، في بيت لاهيا، وبيت حانون، أشتاق لها، وبنات أختي يستقبلنني في بيوتهن وكأنني ملاك بأجنحة بيضاء، ابتساماتهن عروش روحي، ونظراتهن سموات صافية، كن يأخذنني إلى ذروة امتناني من الله أنني خالهن، اشتاق لبنتيَّ سجى وزهرة وهن يرتمين في حضني، متسابقات على خدي لقبلة تطابق مشاعرهن تجاهي، أشتاق لبنات أخي وهن يرمين الشوكولاته أمامي لاصطيادي من نقطة ضعفي، أشتاق لشجر الحمضيات في حديقتي، للبرتقال أبو صرة، وللسكري، والمخال، ولشجر الليمون الشهري، وشجرة اللوز الوحيدة، أشتاق لقفص الدجاجات الأربع ولصاحبهن الديك المتفرد بهن، واشتياقي حاضر أيضاً لأشجار الزيتون اللاتي كنت أعتني بهن عناية خاصة، تمهيداً لحصادهن، وعصر الزينون الذي يجعل موائدنا أعراساً متكررة مع الزعتر المسمسم، خاصة ونحن مجتمعون كأسرة في عريشة الدار الغربية، أمام حقل البطاطا والبصل والبقدونس في يوم مُشمس لطيف من كانون الثاني.
اشتاق لصوت نجلي، آخر العنقود عبد الحميد، وهو يصرخ من زحمة تبوله أثناء عودته من مدرسته، رامياً حقيبته في منتصف الممر المؤدي إلى البيت، أشتاق لطلة الضيوف ساعة عصرية لنجتمع على فنجان قهوة، وثرثرة متعددة الجبهات، نقصف فيها الحكايات غير المؤكدة عن زيد وعبيد، هنا كنت أمارس دور الواعظ أحياناً بالنهي، وأحايين أتورط من غير إدراك بالنميمة لنفض كل مجلس بقولنا، سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك.
* وما هو الشارع الذي تتمنى أن تمشي فيه الآن؟
- شارع الأرض الغربي حيث شجرة الجميز المعمرة، في هذا الشارع المستور والترابي لا مجال لغير دندنة عالية، ورفع الصوت بالشعر، والقراءة بتمثيل كل شخصية في الرواية، كان مارٌّ قد اصطادني مرة فاعتقد أنني مهبول، هذا ما قاله لجاري الذي أبلغني بذلك حتى أحذر منه، في مرّة بعدها رأيته فرحت أصرخ بقصيدة للمتنبي فيها الخيل والليل والبيداء، فتأكد من سلامة عقلي، وفتنة جاري عليه، حتى أنه اقترب مني وطلب أن نشرب معاً كوباً من الشاي بنعناع.
أشتاق للمشي في شارع كان شاهداً على حريتي وأنا أغازل الرمل بقدمين عاريتين، وأفكار كثيرة، وتحديات أكثر، قتلتها الحرب اللعينة كما قتلت الشارع الترابي وشجرة الجميز، والسورَين الشرقي والغربي لأرضي التي أصبحت يباباً الآن، وأضحى التنائي مع الأهل بديلاً عن تدانينا.
0 تعليق