مقدمة المترجم
في هذا المقال المنشور بمجلة "فورين أفيرز" الأميركية والذي تقدمه "الجزيرة نت" مترجما في السطور التالية، كتب مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق مائير بِن شابات، ومدير ملف إسرائيل لدى معهد اتفاقيات أبراهام للسلام أشِر فريدمان، تحليلهما لما تريده إسرائيل من وراء سياساتها منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما أحدثه هذا الحدث المفصلي من تحوّلات في العقلية العسكرية والعقيدة الأمنية الإسرائيلية.
إن هذه المقالة رغم ما تحتويه من مغالطات تاريخية وواقعية، وما تمثله من برود أخلاقي يبرر إبادة شعب كامل، فإن نقلنا لها للعربية يتأسس على كونها مادة معرفية تقدّم لنا طريقة تفكير دولة الاحتلال الإسرائيلي، وليس تماهيا مع دعايتها المضللة؛ فالكاتبان مئير بن شَباط وآشر فريدمان ليسا مجرد صحفيين يقدمان تحليلا للأحداث، وإنما شخصيتان تمثلان المزاج الاستراتيجي لحكومة الاحتلال التي يقودها رئيس الوزراء المطلوب لمحكمة الجنايات الدولية.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listخرج بن شباط من قلب الدولة العميقة الأمنية، حيث خدم على مدى ثلاثة عقود في الشاباك ثم مستشارًا للأمن القومي ورئيسًا لمجلسه (2017–2021)، وقاد مسارات التطبيع العربي، ويأتي زميله فريدمان من شبكة الاتفاقات الإبراهامية حيث يدير Abraham Accords Peace Institute، مؤسِّسًا لمنتديات الأعمال الإسرائيلية مع الدول المطبّعة، وموفّرًا لدولة الاحتلال البنية التحتية من معارف واتصالات، تترجمها الحكومة إلى أدوات اقتصادية ودبلوماسية لتنفيذ استراتيجياتها.
في مقالهما يقدم الكاتبان الأفعال الإسرائيلية الراهنة ليس كطفرة مؤقتة من الجنون تدفعها الحكومة اليمينية التي يقودها نتنياهو ويغذي جنوحها أسماء أكثر تطرفا مثل بن غفير وسموتريتش، ولكن كتحول دائم في التفكير والاستراتيجية الإسرائيلية.
وهكذا يكتسب المقال -رغم إمعانه في تبرير أفعال الإبادة الإسرائيلية- أهمية خاصة، لأنه يكشف المنطق الاستراتيجي وراء حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، والصلف العسكري الذي تتعامل به إسرائيل في المنطقة منذ 7 أكتوبر، والذي دفعها لتوجيه ضربات عسكرية وخوض مواجهات متفاوتة الشدة والتأثير في العديد من دول المنطقة من غزة ولبنان وسوريا مرورا بإيران واليمن، وليس انتهاء بتونس وقطر، فضلا عن خططها المعلنة لتهجير سكان غزة وبسط السيطرة الكاملة على الضفة الغربية، خاصة غور الأردن.
يتبنى الكاتبان ما يسمّيانها "الاستراتيجيات الجديدة" للدولة الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر، وفي مقدمتها أنه لم تعد إسرائيل تكتفي بإضعاف خصومها بدلا من هزيمتهم، بل بات قادتها أكثر استعدادا لتوظيف القوة العسكرية للبلاد استباقيّا، من أجل تشكيل نظام جديد يحمي مصالحها الوطنية المزعومة، بما يشمل استهداف القادة الذين تعتبرهم معادين في أي مكان خارج حدودها.

ويرى الكاتبان أن إسرائيل لا تسعى من خلال ذلك إلى تحقيق الهيمنة الإقليمية، ولكن إلى إعادة تشكيل الترتيبات الأمنية في المنطقة منفردة، بما يحمي مصالحها، مع تجاهل "أي رؤى سلام تتجاهل الكراهية المتأصلة لإسرائيل بين الفلسطينيين والسكان العرب" وفق وصف الكاتبين.
إعلان
وفي محاولة لتخفيف وطأة دفاعهما المستميت عن الإبادة، يدعو الكاتبان إسرائيل إلى توفير آليات لتقديم المساعدات الإنسانية للمدنيين، لكن مع تجريد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من أي إشراف على توزيع هذه المساعدات بدعوى أنها تستخدمها لزيادة قوتها.
لكن هذه الدعوة سرعان ما تتلاشى في خضم تبريرهما المستميت لخطة إسرائيل لتهجير أهل غزة، تحت دعوى أنها "واحدة من الأفكار القليلة لحل النزاع المُستعصي، والتي لا تنصاع للقواعد التقليدية الفاشلة في الماضي".
ويمعن الكاتبان في تبرير الاستهداف الممنهج للمدنيين بالقول إن حماس سيطرت على القطاع منذ 18 عاما، وهو ما يعني أن نصف السكان القطاع نشؤوا تحت حكمها وتشرَّبوا رسائلها عبر المدارس والمساجد ووسائل الإعلام، وهو ما يبدو أنه ذريعة لتهجيرهم أو إبادتهم.
يظهر الكاتبان ازدراء واضحا للسلطة الفلسطينية بسبب ما يسمونه "فسادها البنيوي ودعمها للإرهاب" بزعمهما، وبالتالي يرفضان فكرة سيطرة السلطة على قطاع غزة، كما يرفضان فكرة إيكال إدارة القطاع إلى حكومة تكنوقراط أو أي قوة خارجية، ويريان الحل الأوحد في إبقاء السيطرة الإسرائيلية على غزة.
وبمد الخط على استقامته، يدعو الكاتبان بوضوح إلى فرض السيطرة الإسرائيلية الدائمة على مناطق من الضفة الغربية، وخاصة غور الأردن، رغم كون ذلك مخالفة صريحة للقانون الدولي.
ولكي تكون إسرائيل قادرة على متابعة سياستها الجديدة هذه على المدى الطويل، يرى الكاتبان أن عليها السعي إلى المزيد من الاستقلال الاستراتيجي، بما في ذلك اتخاذ إجراءات تضمن لها التصرف بمعزل عن الولايات المتحدة إذا لزم الأمر.
نص الترجمة
هزّت أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إسرائيل في صميمها، فهجوم حركة حماس، الذي خلَّف نحو 1200 قتيل ومئاتٍ آخرين في الأسر، قد أظهر بجلاء لقيادة إسرائيل ومواطنيها على حدٍّ سواء، أن البلاد لا بد أن تُغيِر نهجها تجاه الأمن القومي لضمان بقائها.
وبالنسبة لكثير من الإسرائيليين، أثبت يوم 7 أكتوبر أنه من المستحيل احتواء جماعات مثل حماس أو تقبُّل وجودها على حدود إسرائيل؛ من دون تعريض أمن البلاد للخطر.
على مدار العامين التاليين، تخلَّى صانعو القرار في إسرائيل عن النماذج الأمنية القديمة لصالح استراتيجيات جديدة. فرغم أن إسرائيل لطالما امتلكت أقوى جيش في المنطقة وخاضت صراعاتٍ خارج حدودها، فإنها كانت عموما تميل إلى حصر تحركاتها في الحد الأدنى اللازم لإزالة التهديدات المباشرة واستعادة الهدوء.
أما اليوم، فلم تعد إسرائيل تكتفي بإضعاف خصومها بدلا من هزيمتهم، بل بات قادتها أكثر استعدادا لتوظيف القوة العسكرية للبلاد استباقيّا من أجل تشكيل نظام جديد يحمي مصالحها الوطنية.

رغم معارضة بعض النخب التقليدية في إسرائيل، بمن فيها عدد من المسؤولين الأمنيين السابقين، تُظهر تحركات إسرائيل في المنطقة منذ 7 أكتوبر أن هذه الاستراتيجيات الجديدة بدأت تترسَّخ.
فإلى جانب استمرارها في حربها البرية في غزة، شنَت إسرائيل حملة تهدف إلى إضعاف القدرات النووية والصاروخية الباليستية لإيران، واغتيال عدد من كبار المسؤولين الأمنيين والعلماء النوويين هناك، كما استهدفت مواقع في لبنان لمنع إعادة تسليح حزب الله، وأقامت وجودا عسكريا في سوريا، وتدخلت مباشرة لدعم الطائفة الدرزية في مواجهة قوى موالية للنظام السوري، ونفّذت غارة جوية استهدفت مسؤولين من حركة حماس في قطر.
إعلان
تُظهِر عمليات الاغتيال التي نفََّذتها إسرائيل ضد قادة بارزين في إيران ولبنان وقطر وغيرها أنها لم تَعُد تلتزم بالخطوط الحمراء التي كان جيرانها يعتقدون أنها لن تتجاوزها.
فإسرائيل لم تَعُد تمنح أي حصانة لزعماء الجماعات المُعادية، مهما كانت مناصبهم السياسية أو أماكن وجودهم، إذا اعتقدت أنهم منخرطون في نشاط تعدُّه "إرهابيًّا". وبينما كانت إسرائيل في الماضي تُنفِّذ مثل هذه العمليات غالبا بصورة شبه سرية أو حاولت إخفاء دورها فيها، فإن قادتها اليوم يعلنونها صراحة ويُظهرون تبنيهم لهذه التحركات.
فسَّر بعض المراقبين الاستراتيجية الجديدة لإسرائيل على أنّها سعيٌ وراء الهيمنة الإقليمية. لكن في الواقع، ورغم كونها أقوى قوة عسكرية في المنطقة، فإن إسرائيل ليست قوة مهيمنة إقليميا، ولا تسعى لأن تكون كذلك. فالاقتصاد الإسرائيلي يُمثّل حصة غير متناسبة من الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة، كما أن إسرائيل غير قادرة على إعادة تشكيل الترتيبات الاقتصادية الإقليمية منفردة بما يخدم مصالحها.
وإضافة إلى ذلك، فإن إسرائيل التي تملك حلفاء طبيعيين قلائل في المنطقة، لا تتمتع إلا بنفوذ محدود على مستوى "القوة الناعمة" بين جيرانها.
لا تسعى إسرائيل إلى الهيمنة على النظام الإقليمي، لكنها تريد أن تُعيد تشكيل هذا النظام بدرجةٍ أكبر من أي وقت مضى. ويشمل ذلك حماية مصالحها وحلفائها، والسيطرة على الأراضي وتعديل الحدود عند الضرورة الاستراتيجية، وبناء تحالفات متنوعة حول المصالح المشتركة، ومنع أي عدو محتمل من تطوير قدرات تُهدِّد وجودها أو أمنها. كما أن إسرائيل مستعدة لوضع أهداف حربية أكثر طموحا بكثير مما سعت إليه في الماضي، حتى لو كان تحقيق تلك الأهداف مكلفا ويتطلَّب عمليات عسكرية مستمرة أو على جبهات متعددة.
يعتقد عدد متزايد من صنّاع القرار في الحكومة الإسرائيلية، إلى جانب محللين خارجيين -بمن فيهم الكاتبان- أن هذه الاستراتيجية أقدر على تحقيق الاستقرار في المنطقة وضمان أمن إسرائيل من الاستراتيجيات السابقة التي اعتمدت أساسا على الردع.
ويجب على إسرائيل أن تتجنّب تقديم تنازلات أمنية مبنيّة على رؤى سلام تتجاهل كراهية إسرائيل والمواقف المتطرفة التي ترسّخت لدى الفلسطينيين وغيرهم من السكان العرب.
ولا ينبغي لإسرائيل أن تستبدل انتصارات ملموسة وجوهرية على الأرض بوعود دبلوماسية مشكوك في مصداقيتها مع شركاء غير موثوقين. وينبغي أن تبدأ أي مفاوضات سلام من فهمٍ لمخاوف إسرائيل الأمنية واستعدادٍ لقبول الترتيبات الضرورية الكفيلة بتبديدها.
يرى القادة الإسرائيليون اليوم أن جاذبية بلادهم كشريك دبلوماسي وحليف؛ تنبع من قوتها. فالتنازل عن المصالح الجوهرية لا يؤدّي إلا إلى تقليص قيمة إسرائيل كحليف إقليمي، إذ ما إن تُبدي استعدادا لتسوية من أجل السلام حتى تعتبرها الدول المعادية دليلا على أنها سترضخ تحت الضغط.
ومن اللافت أن الدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل في إطار اتفاقات أبراهام عام 2020؛ واصلت شراكتها معها في مجالات الدبلوماسية والدفاع والتجارة بعد 7 أكتوبر، وذلك بسبب المنافع التي تجنيها من التعاون مع إسرائيل القوية.
الاختبار الحاسم لهذه الاستراتيجية سيكون في حرب غزة، فرغم أن إصرار إسرائيل على القضاء على حماس كان باهظ الكلفة، إذ دمّرت عملياتها البنية التحتية في غزة وأدّت إلى مقتل الكثيرين، من مقاتلين ومدنيين على السواء؛ فإن الهدف يُعدّ مصيريا لمستقبل إسرائيل، ومن ثمّ فإن هذا النهج ضروري.
ومن المؤسف أن صورة إسرائيل قد ازدادت سلبية في كثير من الدول، بما فيها الولايات المتحدة، منذ اندلاع الحرب في غزة. غير أن إسرائيل، في هذه المرحلة، مضطرة إلى إعطاء الأولوية لأهدافها الحربية، ولو على حساب الانتقادات الخارجية.
إعلان
إن السماح لحماس بالبقاء قوة عسكرية وحكومية مهيمنة في غزة، بحكم القانون أو بحكم الأمر الواقع، أمر غير مقبول. فالتجريد الكامل لغزة من السلاح، الذي يتطلَّب استخدام القوة العسكرية، هو السبيل الوحيد لضمان أمن إسرائيل على نحو حقيقي.
" frameborder="0">
يدان تحملان السلاح
أحد الأعمدة الجوهرية في استراتيجية الأمن القومي الجديدة، يتمثل في الاستعداد المتزايد لاستخدام القوة لمنع الأعداء من تطوير قدرات تُهدّد إسرائيل. فجهود إيران لتطوير أسلحة نووية وإنتاج آلاف الصواريخ الباليستية بعيدة المدى تُشكّل تحديًّا وجوديًّا لإسرائيل.
ورغم أن إسرائيل شنّت في الماضي عمليات سرية استهدفت البرنامج النووي الإيراني، فإنها أقدمت في يونيو/حزيران على إطلاق عملية عسكرية غير مسبوقة لتقويض برامج طهران النووية والباليستية وتأخير تطويرها بشكل كبير. وقد باشرت إسرائيل هذه العملية وهي تدرك الثمن الذي قد تدفعه إذ ردّت إيران، وإمكانية أن تؤدّي ضرباتها إلى إشعال حرب إقليمية.
لم يُغيِر القادة الإسرائيليون هدفهم المتمثل في منع إيران من إعادة بناء قدراتها النووية والباليستية بعد حملة يونيو/حزيران ووقف إطلاق النار اللاحق، فإسرائيل مستعدة لتوجيه ضربات جديدة إذا لزم الأمر، حتى لو أدى ذلك إلى جولات قتال إضافية.
وتُصرّ الحكومة الآن على ترتيبات قابلة للتنفيذ تحول دون تمكّن إيران من تخصيب اليورانيوم على أراضيها، أو السيطرة على دورة وقود نووي، أو التقدّم في تسليح قدراتها النووية.
وتسعى إسرائيل أيضا إلى منع إيران من إنتاج صواريخ باليستية وأسلحة دقيقة، قد تُشكّل بكميات كبيرة تهديدا وجوديًّا لها. وتصر على أنه يجب لأيّ اتفاق أن يتضمّن آليات إنفاذ فعالة، إذ يدرك القادة الإسرائيليون أن الإنفاذ من دون اتفاق يظل أفضل من اتفاق رسمي لا يوقف فعليًّا مساعي طهران.
رغم أن تغيير النظام الإيراني ليس هدفا معلنا في الاستراتيجية الإسرائيلية، فإن إيران ستظل تُشكّل تهديدا طالما أمسك بالسلطة في طهران نظامٌ ديني يسترشد برؤية آية الله الخميني.
وبما أن اقتصاد إيران ونظامها السياسي يعانيان بالفعل من الضعف، تأمل إسرائيل أن تُشجّع الولايات المتحدة والدول الأوروبية على إعادة فرض عقوبات اقتصادية كبرى على طهران، بما فيها تجميد الأصول الإيرانية في الخارج، وحظر السفر على أفراد إيرانيين، ومنع نقل الأسلحة أو التكنولوجيا العسكرية إلى البلاد. والغاية هي عزل النظام الإيراني أكثر، ومنعه من تشكيل تهديد استراتيجي للمنطقة، من وجهة نظر إسرائيل.
بلا كلل ولا ملل
تعني الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة أن القيادة لم تعد تُقيِد نفسها بالنماذج التقليدية في كيفية التعامل مع الحرب الدائرة في غزة والصراع المشتعل في الضفة الغربية.
ففي مقاربتها الجديدة، لا يوجد سوى سبيل واحد لإنهاء الصراع في غزة بشكل حقيقي: إزالة حركة حماس كقوة مُهيمنة ونزع سلاح القطاع بالتخلّص من الأسلحة الموجودة بأيدي الجهات المعادية، وقتل أو أسر أو نفي الغالبية العظمى من قادة العدو ومقاتليه، وتفكيك أي بنية تحتية تتيح لحماس تصنيع الأسلحة أو الحفاظ على سلطتها.
يعتقد القادة الإسرائيليون أنه إذا خرجت حماس من الحرب وهي لا تزال مسيطرة على قطاع غزة، فسينظر حلفاء الحركة الإقليميون إلى ذلك على أنه نصر لحماس. وسيُجرِّئ الجماعات "الجهادية" الأخرى، التي ستقتنع بدورها بأنها قادرة أيضا على مهاجمة إسرائيل وتحقيق الانتصار.
هذا ما يُفسّر استراتيجية إسرائيل في غزة، إذ يشعر صناع القرار الإسرائيليون أنهم مضطرون للاستعداد لاحتلال أراضٍ في القطاع والسيطرة عليها، إلى أن تتمكّن إسرائيل من تحييد الغالبية العظمى من المقاتلين المُتبقين وتدمير أنفاق حماس وأسلحتها وورش تصنيعها.
ومن هذا المنظور، يتعيّن على إسرائيل أن تحتفظ بالسيطرة على أجزاء من غزة، لا سيّما في الشمال وعلى طول الحدود مع إسرائيل، لضمان عدم تمكّن حماس من مهاجمة التجمعات السكانية الإسرائيلية القريبة من الحدود أو إعادة بناء قدراتها.
وعلى المدى الطويل، يتعين على إسرائيل أن تحافظ على القدرة على استخدام القوة لاستئصال "الإرهابيين"، حتى وإن تولت أطراف محلية ودولية مسؤولية الإدارة المدنية اليومية للقطاع.
لهزيمة حماس بالكامل، يجب على إسرائيل أن تمنع الحركة من التحكّم في تدفقات الإمدادات التي تستخدمها لتموين مقاتليها وملء خزائنها وتشغيل أنفاقها. وعلى إسرائيل أن تُسهّل وتُعزّز توزيع الغذاء والدواء بطرقٍ تمنع وصول هذه الإمدادات إلى أيدي حماس عن طريق تقديمها في أماكن لا تسيطر عليها الحركة.
إعلان
وينبغي للجيش الإسرائيلي أن يُمكّن المدنيين الغزّيين من الانتقال إلى مناطق خارج نطاق حركة حماس وتقديم المساعدات هناك. ومع تقدّم الحملة العسكرية الإسرائيلية و"تطهيرها" أجزاء إضافية من غزة من وجود حماس، يُمكن لإسرائيل والمنظمات الإنسانية تقديم مزيد من المساعدات وزيادة عدد مواقع التوزيع المتاحة للمدنيين.
" frameborder="0">
واقعية صلبة
رغم أن بعض المراقبين دعوا إلى إنهاء الحرب واقترحوا تمكين جماعات بديلة من إدارة غزة، فإن هذه المقترحات ستفشل ما دامت حماس هي القوة الأبرز في القطاع.
فإذا لم تُزَح الحركة من موقع القوة المهيمنة في القطاع، فإن حكومة تكنوقراطية مؤلَّفة من إداريين وطنيين مستقلين لن تكون سوى واجهة تختبئ وراءها حماس لإعادة بناء قدراتها العسكرية، كما أن القادة الإسرائيليين لا يُمكنهم الوثوق بأن أي قوة حفظ سلام أجنبية ستكون راغبة أو قادرة على القيام بالمهمة الصعبة المتمثلة في مكافحة القدرات المتبقية لدى حماس أو منعها من إعادة بناء قوتها العسكرية.
إن التحدي الشاق المُتمثّل في كيفية بناء نظام ما بعد الحرب في غزة بحيث يوفّر لإسرائيل الأمن اللازم، قد أدى إلى استنتاج العديد من صانعي القرار الإسرائيليين أن أفضل فكرة قد تكون تشجيع الهجرة الطوعية من غزة. فذلك سيسمح للمدنيين بمغادرة منطقة الحرب، وسيجعل تحديد وتدمير كل أنفاق حماس والبُنى العسكرية المتبقية أسهل وأسرع وأقل كلفة على إسرائيل، وهو ما يلزم لتمكين إعادة إعمار القطاع.
رغم أن العديد من قادة العالم رفضوا اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن الهجرة الطوعية بوصفه غير واقعي أو خطيرا، فإنه يُعدّ من الأفكار القليلة لحل النزاع المُستعصي، والتي لا تنصاع للقواعد التقليدية الفاشلة في الماضي.
وتُظهر استطلاعات للرأي، أجرتها قبل 7 أكتوبر وبعده مراكزُ أبحاث فلسطينية ودولية، أن ما بين 30 و50% من سكان غزة سيهاجرون إذا أتيحت لهم الفرصة. يجب على إسرائيل وجيرانها أن يَخلقوا الظروف التي تسمح بمثل هذه الهجرة الطوعية، بما يشمل تمكين الخروج الحر والآمن للمدنيين إلى دول ثالثة.
رغم أن مصر والأردن غير مُستعدّتين لاستقبال أعداد كبيرة من الغزّيين، فإن دولا عربية وإسلامية أخرى قد تكون مستعدة لذلك. ويمكن للولايات المتحدة أن تُسهّل هذه العملية بجعل استثماراتها في مشاريع إعادة الإعمار في سوريا مشروطة بموافقة الحكومة السورية على توطين الغزّيين وتشغيلهم في بعض أعمال الإعمار.
وعلى المدى البعيد، وبعد القضاء على حماس ونزع سلاح غزة وإعادة إعمارها، يُمكن للمدنيين الفلسطينيين الراغبين في العودة إليها أن يفعلوا ذلك، شريطة أن تحتفظ إسرائيل بالمسؤولية الأمنية عن القطاع.
تُقِرّ الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة للأمن القومي بالدور المركزي الذي تؤديه الأيديولوجيا في تحفيز أعدائها. ففي الماضي، قلَّلت النخبة الإسرائيلية ذات الطابع العلماني من أهمية الأيديولوجيات الإسلامية الراديكالية. وقد أثبت هذا النهج فشله، لذلك يصوغ القادة الإسرائيليون اليوم مقاربتهم الجديدة على أساس أن أيديولوجية حماس قد شكّلت بعمقٍ رؤية كثير من الغزّيين للعالم.
" frameborder="0">
ونظرا لأن المتوسّط العمري في غزة هو 18 عاما، وأن حماس سيطرت على القطاع منذ 18 عاما، فهذا يعني أن ما لا يقل عن نصف السكان قد نشؤوا تحت حكم حماس وتشرّبوا رسائلها عبر المدارس والمساجد ووسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحركة.
لذا، يجب على إسرائيل أن تنتهج برنامجا طويل الأمد لإزالة التطرف، يشمل إدخال مناهج تعليمية جديدة، ومنع علماء الدين أو الشخصيات الإعلامية من الترويج "للإرهاب"، وتمكين قادة جدد يُروّجون للتعايش. كما يتعيّن على إسرائيل أن تُصرّ على أن تكون الجهات المسؤولة عن الإدارة المدنية في غزة مُلتزمة بدفع ثقافة السلام والاعتدال بدلا من ثقافة "الإرهاب" والتطرف.
ينبغي تطبيق المبادئ ذاتها على مقاربة إسرائيل تجاه الضفة الغربية، فقد فشلت اتفاقيات أوسلو، التي كانت تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية، في حلّ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، بل وأرسلت إشارة إلى القادة الفلسطينيين بأن إسرائيل ضعيفة ويمكن الضغط عليها للتنازل عن المزيد من الأراضي.
أما الآن، فإن إسرائيل تتبنى موقفا أكثر حزما لمنع الجماعات المُعادية من العمل على حدودها وتهديد مواطنيها.
لا يثق الإسرائيليون بالسلطة الفلسطينية التي تدير الضفة الغربية، بسبب فسادها البنيوي ودعمها "للإرهاب". وبدلا من تقديم تنازلات أمنية في محاولة لمنع انهيار السلطة لمجرد أنها أفضل من حماس، تدعو المقاربة الأمنية الجديدة لإسرائيل إلى تكثيف العمليات العسكرية في عُمق الضفة، ومنع الفلسطينيين من بناء بنى تحتية مُخصّصة لدعم "الإرهاب"، والحفاظ على وجود عسكري طويل الأمد في المناطق التي تنشط فيها الجماعات المسلحة.
بعد هجمات 7 أكتوبر، بات معظم الإسرائيليين يعتقدون أن السلطة الفلسطينية ليست شريكا للسلام ولا قادرة على ضمان أمن إسرائيل. ومن ثمّ، لا يمكن الحديث عن حل الدولتين، لأن قادة السلطة وكثيرا من الفلسطينيين ما زالوا يرفضون شرعية وجود إسرائيل.
وقد أظهر استطلاع للرأي في مايو/أيار 2025 أن ما يقارب نصف الفلسطينيين في الضفة الغربية يعتقدون أن الكفاح المسلح أفضل وسيلة للوصول إلى دولة فلسطينية. وأي حل دائم يمكن أن تقبل به إسرائيل يستلزم من الفلسطينيين رفض "الإرهاب" قولا وفعلا، والالتزام بقبول إسرائيل دولة يهودية ذات سيادة.
اليوم، ومن أجل المضي قدما في الضفة الغربية، ينبغي على إسرائيل أن تُطبّق قوانينها المحلية رسميا على غور الأردن، بدلا من القوانين العسكرية، والذي يُشكِل ما يصل إلى 30% من أراضي فلسطين ويقع معظمه تحت السيطرة الإسرائيلية.
ونظرا للأهمية الحيوية لغور الأردن لأمن إسرائيل، فإن هذه الخطوة ستوضح أنها تعتزم الاحتفاظ بهذه المنطقة في أي تسوية سياسية مستقبلية، وهو موقف يحظى بإجماع واسع داخل إسرائيل.
ورغم أن بعض المنتقدين قد يرون في هذه الخطوات خرقا للقانون الدولي، فإن إسرائيل تنظر عموما إلى الضفة الغربية على أنها أرض مُتنازَع عليها تملك إسرائيل حججا قانونية ودبلوماسية وتاريخية قوية للسيادة عليها. لذا، يرى القادة الإسرائيليون أن ذلك يُعَدّ مطالبة سيادية مشروعة وليس محاولة لضمّ أراضٍ تابعة للغير.
شركاء بلا حدود
بالنسبة للإسرائيليين، شكّلت هجمات 7 أكتوبر تذكيرا مؤلما بأن إسرائيل ما زالت تقاتل من أجل وجودها. والخلاصة التي استخلصها صناع القرار، والتي يساندها جزء كبير من الرأي العام، هي أن على إسرائيل أن تتبنى مقاربة أمنية جديدة تقوم على القوة، وإبراز قدراتها، وبذل الجهود الاستباقية لضمان أمنها. إن التزام إسرائيل ببسط قوتها يستلزم تغيير نهجها في الشراكات من أجل حماية استقلالها الاستراتيجي.
يؤمن القادة الإسرائيليون بالتعاون مع الدول العربية والإسلامية، لكنهم لن يفعلوا ذلك على حساب مصالحهم الأمنية الجوهرية. فإسرائيل ملتزمة بتعزيز اتفاقيات أبراهام والعمل مع أيٍّ من شركائها الحاليين في المنطقة من أجل تعزيز التنمية الإقليمية والتصدي لإيران والجماعات الإسلامية السنية.
كما تهتم إسرائيل بدعم المبادرات متعددة الأطراف مثل الممر الاقتصادي الهند-الشرق الأوسط-أوروبا، وهو طريق تجاري مقترح يمتد من الهند إلى أوروبا. ومع ذلك، يظل القادة الإسرائيليون حذرين من العمل مع زعماء إقليميين قد يحملون أيديولوجيات "جهادية" معادية لإسرائيل، مثل الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي كان منتميا سابقا إلى إحدى الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة.
تظلّ الولايات المتحدة الحليف الأهم لإسرائيل، وتُواصل لعب دور محوري في نموذجها الأمني الجديد، لكن على تل أبيب أن تعيد ضبط بعض جوانب علاقتها بواشنطن لخلق مساحة أوسع للاستقلالية الاستراتيجية.
إن خطوات الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، الساعية إلى منع أو إبطاء بيع بعض المعدات العسكرية لإسرائيل، إلى جانب استمرار دعم بعض المُشرّعين الأميركيين لفرض قيود إضافية على مبيعات السلاح لإسرائيل؛ قد أظهرت الحاجةَ إلى توسيع الإنتاج العسكري المحلي، وتنويع الشراكات العسكرية، وتعزيز سلاسل الإمداد.
ورغم أن ترامب دَعَم إسرائيل ووفّر لها مساعدات عسكرية، فإن القادة الإسرائيليين يُدركون أن عليهم تطوير شراكات وقدرات جديدة تتجاوز الولايات المتحدة.
ولتحقيق ذلك، يتعيّن على إسرائيل أن تستثمر بكثافةٍ على مدار العقد المقبل في تعزيز قدراتها على البحث والتطوير العسكري والتصنيع، كما يمكنها أن تُعزّز موقعها داخل شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة عبر الانتقال تدريجيا من الاعتماد المُفرِط على التمويل العسكري الأميركي؛ نحو مشروعات مشتركة أميركية إسرائيلية.
وتُولِي إسرائيل قيمة كبيرة بالفعل لتحالفها مع الولايات المتحدة، بما يشمل مجالات التكنولوجيا المتقدمة وتبادل المعلومات الاستخبارية، غير أن النهج الجديد يفرض في نهاية المطاف أن تكون إسرائيل قادرة على التحرّك بمفردها إذا لم يكن أمامها خيار آخر.
عبر تبنّي استراتيجية تعطي الأولوية للهواجس الأمنية الحقيقية على حساب الدبلوماسية القائمة على الأمنيات، وللتدخّل الاستباقي على حساب سياسة ضبط النفس وردود الفعل المحدودة، فإن إسرائيل تُعزّز قوتها بدلا من أن تُضعِفها. فلا يمكن لها أن تزدهر إلا إذا كانت حدودها آمنة، والتحديات الوجودية على أطرافها قد اقتُلعت، وشراكاتها الإقليمية قد تعمّقت.
وحتى مع سعيها نحو السلام، عليها أن تُدرك الحاجة المستمرة إلى العمل العسكري في مواجهة التهديدات الإقليمية. وطالما واصل القادة الإسرائيليون الالتزام بهذا النهج الجديد، فإنهم سيؤمّنون لإسرائيل الحماية ويُهيّئون الظروف اللازمة لشرق أوسط أكثر استقرارا وازدهارا في المستقبل.
هذه المادة مترجمة عن فورين أفيرز ولا تعبر بالضرورة عن موقف شبكة الجزيرة التحريري
0 تعليق