هناك أحداث لا تقاس بمدتها الزمنية، بل بقدرتها على إحداث تغيير لا يمكن التراجع عنه. لحظات قصيرة في ظاهرها، لكنها تعيد ترتيب الوعي الإنساني وتحول مجرى التاريخ. السابع من أكتوبر/تشرين الأول واحد من تلك الأحداث القليلة التي تجاوز تأثيرها الميدان إلى عمق إدراكنا للعالم.
في ذلك اليوم، بدت غزة المحاصرة بالجغرافيا كأنها مركز الكون كله، وما تلاه من أحداث شكل لحظة تجلٍ مزقت القناع الذي ظل يغطي وجه العالم طويلا، وكشف الحقيقة العارية للغرب ونظامه الدولي ومنظومة القيم التي أُسس عليها بعد الحرب العالمية الثانية.
فالسابع من أكتوبر/تشرين الأول لم يبدل الوقائع فحسب، بل قلب المعاني، وفتح زمنا جديدا بالكامل سيبقى أثره ممتدا لسنوات طويلة، وستنشأ أجيال جديدة في عالم ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، عالم فقد يقينه بكل المسلمات المهيمنة على نظم التفكير، ومرجعيات القيم، وبدأ يبحث عن معنى آخر لها.
لم يكن السابع من أكتوبر/تشرين الأول فعلا عسكريا بقدر ما كان لحظة وعي تاريخي. فالشعب الفلسطيني الذي اقتُلع من أرضه في نكبة 1948، واستُبدلت ذاكرته بذاكرة مصطنعة لشعب مستعار من التاريخ الأوروبي، لم يخرج في السابع من أكتوبر/تشرين الأول ليبدأ تاريخا جديدا، بل ليعيد التاريخ إلى مساره.
لقد كان الفلسطيني طوال قرن من الزمن يعيش في نص مكتوب له من الخارج. من وعد بلفور إلى أبراهام، جرى تحويل الفلسطيني من ذات فاعلة إلى موضوع في سردية الآخر؛ يعرف بصفته أزمة معقدة أو ملفا مؤجلا أو بندا تفاوضيا.
في تلك اللحظة لم ينتظر الفلسطيني اعترافا، ولم يطلب وسيطا، بل مزق النص، وقرر أن يصنع روايته الخاصة بدمه. ومن هنا بدأت الهزة، ليس في إسرائيل فحسب، بل في العالم كله.
الغرب أمام مرآته
خرج الفلسطيني من تحت الركام ليقدم إلى البشرية مرآتها السوداء؛ رآها الجميع، ورأى فيها كل وجهه الحقيقي. لم تكن صرخة محلية في وجه الاحتلال، بل إعلان سقوط شامل لمشروع حضاري بكامله. ذلك أن العالم الحديث الذي روج لنفسه كـ"نهاية التاريخ"، وجد نفسه فجأة أمام ما لم يستطع فهمه؛ كيف يمكن لشعب محاصر وأعزل تقريبا، أن يربك أعقد منظومات القوة في العالم، وأن يهز وجدان الإنسانية بأكملها؟
إعلان
ارتبك العقل الغربي؛ لأن الفلسطيني لم يتصرف وفق القواعد التي وضعها له؛ لم يقبل أن يظل داخل المعادلة الأخلاقية المزيفة التي تقسم البشر إلى "ضحايا مستحقين" و"ضحايا منزوع عنهم الإنسانية".
لأول مرة، وجد الغرب نفسه عاجزا عن تبرير ازدواجيته؛ لأن الصورة لم تعد تحتمل التأويل. فمشاهد الإبادة نقلت على الهواء مباشرة، العالم كله رآها، لكن النظام الغربي نظر في الاتجاه الآخر. هنا انكشفت الحقيقة؛ أن المنظومة الغربية لا ترى في الآخر إنسانا، وأن الحضارة التي ملأت الدنيا بشعارات الإنسانية والحرية والكرامة، لا تؤمن بشيء منها إلا حين يخدم مصالحها.
لقد كشف هذا الحدث كيف يتهاوى الوعي العالمي حين يواجه اختبارا أخلاقيا حقيقيا. انتهى زمن الخداع الذي كان يبرر الوحشية بلغة القانون.
لم تعد الأمم المتحدة قادرة على الإقناع بأنها منصة للسلام، ولا المحاكم الدولية قادرة على الادعاء بأنها تحاكم الجميع بالمعيار ذاته، حيث بدت كأدوات انتقائية، ينحصر نطاق اشتغالها داخل "العالم الثالث"، بينما يتم تعطيلها أمام مجازر ترتكبها إسرائيل، ببساطة لأن من صنعها لم يقصد بها سوى حماية مركزه في منظومة السيطرة.
والصحف والقنوات الإعلامية الغربية، التي لطالما تغنّت بالموضوعية وبالرسالة الإنسانية وبتقديس الحقيقة، والتي ما فتئت تتباكى على ضحايا الحرب في أوكرانيا وإسرائيل من أصحاب السحن الشقراء، صمتت أمام آلاف الأطفال تحت ركام غزة، وبررت للعواصم الغربية، التي تتبجح بـ"حقوق الإنسان" و"محاربة الإرهاب"، وهي تمد الكيان بالقنابل الذكية والغبية لتسقط على رؤوس المدنيين في غزة. إنها ازدواجية لم تعد قابلة للتجميل؛ لأن العالم كله رآها بعيونه، ولأن تكنولوجيا الصورة كسرت احتكار الرواية.
والخطاب الأميركي نفسه، انكشف في تناقضاته الداخلية؛ فواشنطن التي لطالما رفعت راية "القيادة الأخلاقية" للعالم، وقدمت نفسها بصورة حامي الحقوق والحريات وراعي السلم والأمن الدوليين، بدت عارية من كل معنى؛ فحين أعلنت عن دعمها المطلق لحرب الإبادة الإسرائيلية، وأرسلت السلاح ومنعت الإدانة، أو حتى الإشارة إلى وقف إطلاق النار، لم يكن ذلك تناقضا في السياسة، بل اتساقا في الجوهر، لأن جوهر النظام الدولي الذي تقوده أميركا قائم على احتكار تعريف العدل والإنسانية، واحتكار الحق في العنف.
وبينما خرج بعض ساسة واشنطن ونخبها ليبرروا دعم حرب الإبادة بحجة أن الدفاع عن إسرائيل واجب ديني قبل أن يكون سياسيا؛ في مشهد يكشف كيف يدار العالم الحديث بخليط من الأيديولوجيا والمصالح، كان هول بشاعة الصورة القادمة من غزة أكبر من أن يغطيه الغِربال؛ إذ ارتفعت في أميركا أصوات سياسيين ومثقفين وفنانين وناشطين لم تلوثهم الدعاية الصهيونية، نقدا لهذه الحرب المجنونة، فاهتز السرد الرسمي، لم تعد أميركا تدير الحرب من الخارج بل من داخل ضميرها المنقسم، وهو صدى لموجة أوسع من مناوأة هذه الازدواجية الفاضحة في عواصم الغرب.
وهنا تجلى الانكشاف الكامل. الإمبراطورية التي ظنت نفسها حارسة النظام العالمي وجدت نفسها موضع سؤال، لا عن سياستها فحسب بل عن ذاتها.
إعلان
فقد كشف السابع من أكتوبر/تشرين الأول حدود القوة الأميركية وقدرتها على إقناع العالم بشرعيتها الأخلاقية؛ بدت كإمبراطورية عجوز، تخلط بين الغطرسة والارتباك، وتتعامل مع العالم بمنطق "من ليس معنا فهو ضدنا"، دون أن تدرك أن هذا المنطق لم يعد يقنع أحدا.
لقد أدركت الشعوب الغربية- لأول مرة منذ عقود – أن النظام العالمي الحديث ليس سوى استمرارية استعمارية بأدوات جديدة. ففي اللحظة التي حاولت فيها الأنظمة الغربية طمس قضية فلسطين، كانت الشعوب الغربية تستعيدها كرمز لكل المقموعين، وتعود بها إلى البدايات، إلى أصل الصراع، حيث النكبة والاقتلاع وإحلال لفيف من الأجناس والأعراق مكان شعب ضاربة جذوره في أطناب الجغرافيا والتاريخ.
المظاهرات التي خرجت في العواصم الغربية، كانت إعلانا صارخا عن انهيار السرديات السائدة. لقد انهارت سردية "الحرب على الإرهاب" التي طالما وظفت لتبرير قتل العرب والمسلمين، وانهارت معها أسطورة الوصاية الأخلاقية التي غذت الوعي الغربي منذ الحرب العالمية الثانية.
إسرائيل: انكشاف الصورة وحدود القوة والوظيفة
تحت ثقل المشهد وبشاعته، تحطمت صورة "الضحية الإسرائيلية" في وعي الشعوب الغربية؛ أخطر جبهة تستمد منها قوتها. لم يعد ممكنا إقناع العالم بأن من يملك أقوى الجيوش هو من يحتاج الحماية، فإسرائيل التي قدمت نفسها لعقود على أنها " الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" و"ضحية الإرهاب"، ظهرت فجأة على حقيقتها ككيان استعماري إحلالي قائم على الاقتلاع والإبادة والتطهير العرقي، يمارس حربه على المدنيين في بث حي على الهواء، ويستند إلى دعم أعمى من المنظومة الغربية التي لا ترى في الفلسطيني إلا مادة للفناء.
لقد انكشف للعالم هوية إسرائيل المشوهة؛ فاشية حديثة متجسدة في مجتمع يعيش متلازمة الاضطهاد والاصطفاء في آن واحد، بين عقدة "الشعب المهدد بالزوال" وعقيدة "الشعب المختار" الذي لا يدان.
وبات العالم أكثر وعيا بجوهر الكيان الصهيوني، بوصفه نموذجا مضادا للإنسانية، متلبسا بازدواجية مرضيّة تتغذى على الخوف والكراهية، وعلى أيديولوجيا استئصالية تنزع الإنسانية عن الآخر وتبرر قتله باسم الخلاص.
لقد انكشف للجميع أن هذا الكيان لا يعرف كيف يعيش من دون عدو، ولا يستطيع أن يرى العالم إلا من خلال الحروب؛ أي أن وجوده يتغذى من العنف الذي يبرره.
وبالمقابل اكتشفت إسرائيل حدود قوتها، وأن الردع لم يعد ممكنا في مواجهة إرادة مؤمنة بتحقيق العدالة، فبعد عامين من الحرب، لم تستطع كسر غزة ولا إخضاع مقاومتها، واضطرت في نهاية المطاف للتفاوض مع من أقسمت على القضاء عليه.
وحين انكشفت إسرائيل كقوة فقدت قدرتها على الردع، صار سؤال الوجود والوظيفة ملحا أكثر من أي وقت مضى. فإسرائيل، التي نشأت كوظيفة استعمارية وذراع متقدمة للمركز الغربي في الشرق، تحولت من قوة تحمي الغرب إلى كيان يحتاج الحماية منه، من رأس حربة إلى عبء أمني وسياسي يجر حلفاءه إلى الحروب والأزمات السياسية والأخلاقية والدبلوماسية.
لقد بدت إسرائيل بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول منظومة مترهلة مثقلة بالغرور والعجز البنيوي، ليس فقط في الميدان، بل في العقل الذي يدير الميدان؛ إذ تحول "الأمن" إلى عقيدة خائفة تعيش داخل هوس وجودي دائم، وترى في التهديدات حالة تسلسلية تبدأ في غزة ولا تنتهي في الإقليم.
وبذلك، كشف السابع من أكتوبر/تشرين الأول أن "القلعة الأمنية" التي طالما قدستها إسرائيل هي في حقيقتها وهم مؤسس على الخوف لا على القوة، وأن بنية الدولة التي بنيت حول "جيش لا يقهر" تخفي تحتها مجتمعا هشا، منقسما، متوترا، مأزوما في هويته وذاكرته.
بهذا المعنى، دخلت إسرائيل بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول مرحلة القلق الوجودي، لا من بوابة الهاجس الأمني فحسب، بل من عمق الأسئلة التي باغتتها؛ ماذا بعد؟ كيف يمكن لكيان يقوم على الخوف أن يطمئن؟ وكيف يمكن لمجتمع يعيش على الحرب أن ينعم بالاستقرار؟ إنها أسئلة تتجاوز الأمن إلى معنى الاستمرار والوظيفة.
إعلان
إن مستقبل إسرائيل لم يعد وعدا بالتفوق كما كانت تروج، بل اختبارا قاسيا للبقاء في ظل تآكل القدرة على إقناع العالم بجدوى وجودها كـ"قلعة" للغرب في الشرق، في زمن تتهاوى فيه القلاع من داخلها.
ومع ذلك، لا يعني هذا التحول أن إسرائيل ستتراجع عن مشروعها العدواني؛ بل على العكس، فإسرائيل الخائفة أكثر خطرا على المنطقة والإقليم بل وعلى العالم، لأن كيانا يعيش على الخوف لا يتورع عن إشعال الحروب كلما واجه سؤال الوجود والبقاء.
انكشاف الحضارة الغربية ومركزيتها
بالعودة إلى الغرب، لا يمكن حصر تداعيات السابع من أكتوبر/تشرين الأول في انكشاف السرديات السياسية والإعلامية، إذ بدأ الغرب يكتشف هشاشة الأفكار المؤسسة لمشروعه الحضاري. فالغرب عاش لعقود في وهم الرسالة الأخلاقية؛ أنه مركز الحضارة، وأن تدخله في شؤون الآخرين يتم باسم حقوق الإنسان. وقدم الغرب نفسه للعالم باعتباره حامل مشعل التقدم، واعتبر أن مهمته تمدين الآخرين.
لكن غزة كشفت أن هذه الرسالة لم تكن سوى غطاء لامتياز القوة. فالذي يقصف مستشفى لا يمدّن أحدا، والذي يمنع الماء والدواء عن أطفال محاصرين لا يحرر أحدا، والذي يبرر كل ذلك باسم الدفاع عن النفس لا يدافع إلا عن وحشيته.
والطلاب الذين خرجوا في جامعات أميركا وأوروبا يهتفون لفلسطين لم يكونوا مجرد متعاطفين، بل كانوا يعلنون- من حيث لا يدرون – موت السردية الغربية.
هكذا، تحول "الوعي الغربي" ذاته إلى ساحة معركة؛ فالسابع من أكتوبر/تشرين الأول لم يسقط الأقنعة فقط، بل عرى البنية الفلسفية التي تستبطن مركزية الذات الغربية التي تقود النظام العالمي وتهيمن عليه.
فهذه الذات لا تمارس العدالة إلا من داخل منطق السيطرة، أي من موقع القوي الذي يمنحها حين يشاء ويحجبها حين يشاء. فقد ظهرت الإنسانية الغربية كما هي، إنسانية مشروطة بلون الدم وجغرافيا الهوية وتوازن القوى؛ أو كما عبر عنها المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد؛ إنسانية انتقائية تعري شعارات التنوير والحرية الغربية، باعتبار أن إطار اشتغالها محصور داخل المعسكر الغربي، بينما يَستثني منها الشعوب المستعمرة.
كما أن الضمير الغربي بدأ يخرج من أَسر السردية التوراتية التي غذته لعقود؛ فمنذ الحرب العالمية الثانية، رُسمت في الغرب معادلة أخلاقية تقول إن اليهود هم الضحية المطلقة، وإن أي نقد لإسرائيل هو إنكار للمحرقة وعداء للسامية. لكن مشاهد غزة نسفت هذه المعادلة من جذورها؛ فحين ترى الضحية تمارس دور الجلاد، لا يعود التاريخ قابلا للاستعمال كسلاح.
لم يكن الفلسطيني بحاجة إلى نظريات ليثبت ذلك؛ فقد فعله بدمه. حين وقف العالم مترددا أمام مشاهد الإبادة، أدرك الكثير أن منظومة القيم التي بنيت عليها الحضارة الغربية ليست سوى واجهة زجاجية تخفي ماكينة القهر القديمة ذاتها.
لقد أعاد السابع من أكتوبر/تشرين الأول تعريف المفردات الكبرى: المقاومة، الإرهاب، الاستعمار، الحرية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، القانون، السياسة، الأخلاق، والإنسان نفسه. وأعاد السؤال إلى جذره الأول: ما معنى أن تكون إنسانا في عالم لا يرى فيك إلا أداة أو تهديدا؟
ما بعد الخداع الحضاري
لقد فرض السابع من أكتوبر/تشرين الأول على العالم أن يرى نفسه من جديد، وأن يواجه السؤال الذي تهرب منه قرنا كاملا؛ هل يمكن بناء حضارة بلا ضمير؟
وهو سؤال يقودنا إلى محاكمة الحداثة ذاتها؛ فالإنسان الغربي الذي بنى حضارته على فكرة العقلانية والحرية اكتشف أنه يعيش داخل بنية "العقل الأداتي"؛ كما عبرت عنه المدرسة النقدية (فرانكفورت)، ذلك النمط من التفكير الذي يلفق حلولا مباشرة للمشاكل دون تساؤل عن مضمون هذه الحلول وغاياتها، وما إذا كانت إنسانية أو معادية للإنسان، إنها بتعبير طه عبدالرحمن آفة اللاعقلانية واللاأخلاقية التي تلبّست العقل الغربي، الذي ينتج الأدوات لا المعاني، ويقيس كل شيء بالمنفعة بمعزل عن القيمة.
لقد فضح السابع من أكتوبر/تشرين الأول مفارقة الحداثة الكبرى؛ أنها بلغت أقصى درجات العلم وأدنى درجات الحكمة، فالحضارة التي تستثمر بالذكاء الاصطناعي وتفقد قدرتها على حماية الإنسان الحقيقي لا مبرر لوجودها، والحضارة التي تمتلك كل أدوات التقنية، لكنها تفقد بوصلتها الأخلاقية هي شكل آخر من البربرية والنازية.
لذلك لم يكن غريبا أن تتحول القيم إلى شعارات وأن تختزل الإنسانية في خطاب دبلوماسي فارغ. فالحداثة التي ادعت تحرير الإنسان من الأسطورة خلقت أسطورتها الخاصة؛ أسطورة التقدم الذي يبرر كل شيء، والنتيجة أن العالم صار يملك قدرة غير مسبوقة على التدمير، لكنه فقد القدرة على الإحساس بالذنب.
إعلان
وبهذا المعنى فقد بدا واضحا أن أزمة الغرب ليست سياسية ولا اقتصادية، بل أزمة روحية؛ فقد فيها الغرب علاقته بالإنسان بوصفه كائنا تدور حوله الغايات، لا بوصفه وظيفة أو أداة مسخّرة لخدمة مصالح من يمتلك القوة.
ومع هذا الانكشاف، بدأت مرحلة ما بعد الخداع الحضاري؛ لم يعد أحد يثق في حياد القيم التي بنى عليها الغرب حضارته، ولم يعد أحد يثق في نزاهة المنظومة الدولية وأدواتها المتحكمة بالعالم الحديث، بل أصبحت جدوى وجود "النظام الليبرالي العالمي" ذاته موضع تساؤل.
العالم صار أكثر وعيا، نعم، لكنه أيضا أكثر وحشية؛ لأن سقوط القناع لا يعني بالضرورة صحوة الضمير، بل أحيانا انكشاف الغريزة. ومن هنا تأتي خطورة المرحلة المقبلة؛ أن ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول قد يكون بداية انقسام كوني جديد، لا بين الشرق والغرب فقط، بل بين الإنسان وصورته عن نفسه.
درس من فلسطين
حين نقرأ التاريخ من جديد بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ندرك أن هذا الحدث لم يكن خروجا عن المسار، بل عودة إلى جوهر الصراع الإنساني الأزلي بين الحق والباطل، وبين الحرية والهيمنة، فالفلسطيني علمنا – من تحت الركام – درسا في الكرامة لم تدرّسه أرقى الجامعات؛ علمنا أن الضعف لا يعني الاستسلام، وأن المقاومة ليست فعلا عسكريا فقط، بل فعلا وجوديا ضد العدم، وأن من يملك الإرادة ويتسلح بقضية عادلة لا يهزم، حتى لو خسر كل شيء.
ربما لهذا تبدو فلسطين اليوم كمسرح رمزي للصراع بين إنسان يعيش المعنى في كفاحه اليومي، وإنسان يختبئ خلف تقنيته ليبرر غيابه الأخلاقي. الأول يقاتل لأنه لا يملك إلا أن يكون صادقا مع ذاته، والثاني يقاتل لأنه لا يحتمل أن يرى المرآة. الطوفان بهذا المعنى ليس معركة على الأرض فقط، بل معركة على الحقيقة ذاتها؛ وعلى الحق في تعريف الإنسان.
لقد صار واضحا أن فلسطين ليست مجرد قضيةٍ إنسانية أو ملفٍ سياسي، بل البؤرة التي تتقاطع عندها الأسئلة الوجودية الكبرى؛ سؤال العدالة، سؤال الحقيقة، سؤال الإنسان. من هذه الزاوية، يمكن القول إن طوفان الأقصى لم يغير العالم لأنه انتصر عسكريا، بل لأنه جعل العالم يرى نفسه كما هو: بلا زينة، بلا أقنعة، بلا أوهام.
ويبقى السؤال: كيف يرى العالم العربي والإسلامي نفسه بعد السابع أكتوبر/تشرين الأول ؟ تلك قصة أخرى ورواية يجب أن تحكى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق