غزة - "شينخوا": بعد أشهر من النزوح والانتظار في مدارس مكتظة جنوب قطاع غزة، قرر محمود سليم (40 عاماً)، وهو أب لثلاثة أطفال، أن يعود إلى بيته في حي الرمال غرب مدينة غزة، لا ليتفقد حجارة، بل ليعرف إن كان ما تبقى من حياته ما زال قائماً.
وقال محمود، وهو يستعيد مشهد عودته: "عندما اقتربت من الشارع الذي كنت أعيش فيه، شعرت بأن قلبي سيتوقف. الطريق الذي كنت أعرفه لم يعد هو نفسه. كل زاوية، كل ركن، كل حجر كان يحمل ملامح بيت أو دكان أو وجه جار أعرفه، صار اليوم كومة من الرماد".
وأضاف: "كنت أمشي وكأنني أبحث عن نفسي بين الركام. حتى رائحة المكان تغيّرت، صارت تشبه رائحة الموت أكثر من الحياة".
كانت السيارات المحترقة تصطف على جانبي الطريق مثل شواهد قبور، والجدران التي طالما ارتد صدى أصوات الأطفال من بينها أصبحت أطلالاً رمادية. لكنه واصل السير، على حد وصفه، يحدوه الأمل والخوف معاً، حتى وقف أمام منزله. "لم أصدق عيني. كان ما زال واقفاً"، قال محمود بصوت يغلبه الانفعال. وتابع الرجل الأربعيني "الجدران متشققة، النوافذ مكسورة، والسقف مثقوب في أكثر من مكان، لكن البيت موجود.. لم يمح من الوجود كما محيت بيوت كثيرة حولنا".
وبيّن أنه دخل بيته ببطء، كمن يدخل ذاكرته القديمة. الأثاث مبعثر، بعض الصور العائلية على الجدران احترقت أطرافها، وركن الصالون الذي كان يحتضن سهراتهم تحول إلى غبار. لكن محمود انتابه شعور غريب "كأن البيت يتنفس معي. كأن بيني وبينه عهداً قديماً أننا سنبقى، مهما حدث.. أغمضت عينيّ وسمعت أصوات أولادي تملأ المكان. كأن الجدران تذكّرتنا جميعاً، وقررت ألا تنهار. ربما لأننا أحببناها أكثر من اللازم"، يتابع وهو يطلق تنهيدة.
ومضى قائلاً: "أن تعود وتجد بيتك لم يُدمَّر تماماً هو نعمة، لكن أن تنظر حولك وترى جيرانك بلا مأوى، هو وجع لا يُحتمل. فرحتي لم تكتمل، لأن غزة كلها لم تعد كما كانت".
وأشار وهو يحدّق في السقف المثقوب "أشعر أن هذا البيت مثلي.. لم يمت، لكنه لم يعد حيا كما كان".
خلال فترة النزوح، تنقّل محمود بين خان يونس ورفح ودير البلح ثلاث مرات، مع أسرته المكونة من خمسة أفراد بين مدارس مكتظة وخيام مؤقتة. وقال: "كنا ننام على الأرض في صفوف مزدحمة. الماء كان يُوزع بالقطارة، والطعام بالكاد يكفي. مرض أحد أطفالي بالتهاب رئوي بسبب البرد، ولم نجد دواء. شعور العجز كان أصعب من الخوف نفسه".
وروى محمود كيف فقد الأمل في لحظات كثيرة، لكنه كان يتمسك بفكرة العودة كأنها وعد شخصي بالحياة، وقال "كنت أقول لنفسي إن البيت سيبقى ينتظرنا مهما طال الغياب. حتى وإن انهار، سأعود لأقف على ركامه. العودة ليست رفاهية، إنها جزء من كرامتنا. أن نعود، ولو بلا جدران، يعني أننا ما زلنا نملك مكاناً نحلم فيه".
قصة محمود ليست استثناء، فهو واحد من بين آلاف المواطنين الذين بدؤوا بالعودة تدريجياً إلى مناطقهم في شمال قطاع غزة منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في العاشر من تشرين الأول الجاري، بعد أكثر من عامين من النزوح والمعاناة في مدارس وخيام جنوب القطاع.
ورغم أن معظم العائدين وجدوا منازلهم مدمّرة أو متضرّرة بشدة، إلا أنهم اختاروا العودة بدافع استعادة ما تبقى من حياتهم، وسط غياب شبه تام للخدمات الأساسية ودمار واسع في البنية التحتية.
وفي حي الزيتون شرق مدينة غزة، عاد الشاب عادل أبو حسنين (29 عاماً) ليجد نصف منزله مهدماً والنصف الآخر قابلاً للسكن بعد إصلاحات بسيطة. وقال "عدت لأنني تعبت من الترحال. في الجنوب كنا نعيش على المعونات، لا كهرباء ولا ماء. حتى لو اضطررت للعيش في غرفة واحدة من بيتي، هنا أشعر بالكرامة".
وأضاف: "التحدي الأكبر أمام السكان هو غياب التمويل اللازم لإعادة الإعمار وصعوبة إدخال مواد البناء إلى القطاع. نحاول جمع الحجارة التي بقيت لإصلاح ما يمكن إصلاحه. نبدأ من الصفر، لكننا لا نفقد الأمل". وتابع "لم أحتمل البقاء في الجنوب أكثر. هنا بيتي حتى لو أصبح رماداً. لا أريد أن أموت غريباً.. النزوح كان أقسى من الدمار. نُقلنا أربع مرات، وفقدت زوجتي بسبب المرض أثناء القصف. لم يعد لدي ما أخسره سوى الأمل".
وفي حي التفاح، وجدت نهاد الكرد (35 عاماً) منزلها متضرراً جزئياً. وقالت "العودة كانت مغامرة، لكنني لم أتردد. عندما فتحت باب البيت بعد عامين بكيت. كل زاوية هنا تذكّرني بعائلتي، حتى لو تهشّم نصف البيت".
ولفتت إلى أن أكثر ما يقلقها هو المستقبل المجهول في ظل بطء التحركات نحو الإعمار. "نسمع حديثاً عن مشاريع مرتقبة، لكن لا شيء يحدث على الأرض. نعيش بلا كهرباء، والماء تأتي لساعات محدودة. ومع ذلك، وجودنا هنا يعني أننا ما زلنا على قيد الحياة".
في شوارع غزة، تتداخل مشاهد الأمل والوجع. الأطفال يلعبون بين الركام، والنساء يجلسن أمام بيوت نصفها مهدّم، فيما يحاول الرجال إصلاح ما تبقّى من الأبواب والنوافذ بأدوات بدائية. أصوات المولدات تختلط ببكاء الأطفال وضحكات خافتة تحاول مقاومة الصمت الثقيل.
وذكر المواطن عدنان البطش (56 عاماً) من مخيم جباليا، وقد عاد رغم دمار منزله الكامل "عشنا عامين في مدارس مكتظة ننتظر المساعدات لنعيش. الآن عدنا إلى الركام، لكننا عدنا بكرامتنا. هذا هو الوطن مهما كان حاله". وقال: "الوطن لا يُختار، يُعاش".
ورغم إصرار الأهالي على العودة، فإن طريق إعادة البناء يبدو طويلاً ومعقداً.
0 تعليق