الاربعاء 15 أكتوبر 2025 | 10:20 مساءً

بسام عبد السميع
في بلادنا لم ينام فيها أحد، لم يعد الضجيج مجرد صوت، بل طريقة حياة. كل شيءٍ يتحدث: السيارات، الهواتف، الجيران، الباعة، حتى الثلاجة تصدر صوتًا عندما تُغلق الباب بعنف.
أما الناس، فيتحدثون في كل شيء: السياسة، الطب، الدين، التعليم، الذوق العام، وصفة الشوربة. لا أحد يُنصت، لأن كلًّا منهم يظن أن الله خلقه ليكون “صاحب رأي”.
“محمود” يعمل موظفًا في مؤسسةٍ حكوميةٍ عريقة تُعقد فيها الاجتماعات يوميًا حول مشاريعٍ لا تُنفذ أبدًا.
كل اجتماعٍ يبدأ بتقريرٍ وينتهي بخطبة. يتكلم المدير عن الإنجاز القادم، والمساعد عن خطة التطوير، والمهندس عن ضرورة العمل الجماعي،ثم يُغلق الاجتماع على وعدٍ بلقاءٍ جديدٍ “لمناقشة التفاصيل”.
ويبرز رجال كل العصور — أبرع من يجيد صفقات تحت الطاولة — بدعاوى “التطهير والبناء” و”هيكلة المؤسسات” و”ترشيد الإنفاق”.
لكن الحقيقة أن الهيكلة كانت وسيلة لإقصاء العاملين الحقيقيين لأن وجودهم يفضح زيف الكلام، وأن “الترشيد” كان خدعة لغوية لتبرير تضاعف الإنفاق وتراجع الجودة.
أما مسؤولو تلك المؤسسات فيقتطعون جملًا من “سون تزو” وغيره، ليبدو أنهم عباقرة مطلعين، حتى تكشف الأيام أن ما يملكونه ليس معرفةً بل نوع من اقتباس من دورات التنمية البشرية- بلا مضمون - ويخرج الجميع متعبين من كثرة الكلام، لا من قلّة العمل.
في طريقه إلى البيت، سمع محمود في الحافلة مناقشة حامية حول سعر البصل، ثم عن التعليم، ثم عن فساد الكرة.حتى الطفل في المقعد الخلفي كان يشرح لأمه نظرية المؤامرة بثقةٍ عالِمٍ فلكي.
وفي المساء، جلس أمام التلفاز، فوجد المذيع يصرخ في وجه الضيف، والضيف يصرخ في وجه المذيع، والمشاهدون يصرخون في التعليقات.
غيّر القناة فوجد برنامجًا يناقش “أسباب كثرة الكلام في مجتمعاتنا”. ضحك بصوتٍ عالٍ حتى كاد يختنق.
في اليوم التالي، قررت الحكومة إعلان “يوم الصمت الوطني” لمكافحة التلوث الصوتي. رحّب الناس بالفكرة بحماسٍ شديد، فتدفقت التغريدات والمقاطع:
“يجب أن نصمت!”
“الصمت عبادة!”
“أجمل ما في الإنسان صمته!”
امتلأت الشاشات ببرامج عن فوائد الصمت، وارتفعت الأصوات لتطالب بتعميم التجربة أسبوعيًا.
لكن عندما جاء “يوم الصمت” الموعود، لم يلتزم أحد.
المساجد رفعت مكبراتها أكثر،
المذيعون أعدّوا حلقات خاصة عن أهمية السكوت،
والناس في الشوارع يتجادلون حول سبب فشل “يوم الصمت”.
وبرغم أن الضجيج المجتمعي قد ينجح أحيانًا في تعديل موقف المجتمع من قضيةٍ محددة، او توضيح جانبا أخفاه الضجيج إلا أن نجاحه عادةً يكون عابرًا ومؤقتًا — كعاصفةٍ تهبّ ثم تخمد دون أن تُغيّر الفصول - فهو ينجح في إحداث ضغطٍ لحظيٍّ، لكنه يفشل في تحقيق الوعظ الجمعي تجاه قضيةٍ عامة تمسّ الجميع.
يضجّ الناس عندما يُستفزّ شعورهم الآني، لكنهم يصمتون حين يكون المطلوب وعيًا عميقًا وتفكيرًا شاقًا.
الضجيج العربي إذن قادرٌ على تعديل خطابٍ رسمي او مجتمعي ، لكنه عاجزٌ عن بناء ضميرٍ جماعي. لأن القضايا الكبرى لا تُصلحها الحملات ولا البثوث المباشرة، بل الفعل الصامت الطويل، ذاك الذي لا تصاحبه هاشتاغات ولا تصفيق.
في الليل، كتب محمود في دفتره الصغير جملةً واحدة:
“في هذه الأمة، السكوت معجزة… لكنها، للأسف، لم تحدث بعد". ثم أغلق الدفتر، وأطفأ الضوء، وسمع من النافذة صراخ الجيران في جدالٍ حول أفضل طريقةٍ للنوم.
ابتسم وقال في نفسه: “حتى الأحلام عندنا تنتظر أن نصمت لتأتي".
0 تعليق