كتب يوسف الشايب:
رحل الشاعر فوزي البكري، المعروف بلقب "صعلوك القدس"، في المدينة المقدسة، أول من أمس، لتخسر المدينة وفلسطين واحداً من أصواتها الصادحة الجريئة، وأحد أيقونات الرفض الشعري والفعل المقاوم.
ولد البكري في بيت علم وأدب العام 1948 في القدس القديمة. والده الشيخ المجاهد ياسين البكري، أحد قادة "الجهاد المقدس"، وشغل منصب خطيب وإمام المسجد الأقصى، كان ينظم الشعر أيضاً وله بعض القصائد نشرها في كراس ابنه فوزي الذي أصبح شاعراً.
صدر ديوان فوزي البكري الشّعري الأوّل "صعلوك من القدس القديمة" في أواسط ثمانينيات القرن العشرين عن دار الصّوت في الناصرة، وأصدرت له جمعيّة الدّراسات العربية في العام 1987 كرّاسة شعريّة تضمّ ثلاث قصائد للقدس بعنوان "شدِّي حيلك يا بلد"، فيما صدر ديوانه "قناديل على السّور الحزين" في القدس العام 1997، وله العديد من الأشعار التي غنتها فرق فلسطينية عدّة، وفنانون منفردون. عمل في صحيفة "الشعب"، وصحيفة "الفجر" في القدس، وفي مركز الأبحاث ومكتبة بيت الشرق، ومجلة "العودة" المقدسية.
وقال الروائي والأديب جميل السلحوت لـ"الأيام": عرفت الشاعر فوزي البكري عن قرب في العام 1975، عندما عملنا معاً في صحيفة الفجر المقدسيّة، وكان يرأس تحريرها بشير البرغوثي، وقتذاك. وهو شاعر ذو طابع خاص، فمن يقرأ قصائده يجد الانسيابيّة البليغة التي لا تصنّع فيها، ويقف أمام صور شعريّة مدهشة.
وأضاف السلحوت: البكري، وكان يسكن في البيت الذي كان يقطنه سابقاً الحاج أمين الحسيني في البلدة القديمة بالقدس في طريق الواد، مرح، وصاحب سخرية محببة رغم ضنك الحياة، لذا فقد انحاز في أشعاره ومواقفه للكادحين والمغلوبين، ورغم أنّه شاعر مقلّ، فإن ما كتبه عن القدس يشي بشعرية تنبع من أصالة تدلّل على صدق الانتماء لمدينته ووطنه، فمدينته القدس تسكنه كما يسكنها، وقد عبّر عن ذلك بعفويّة تامّة من خلال قصائده. كما يُلاحظ في أشعاره النّبرة "النّوابيّة" (نسبة إلى الشاعر مظفر النوّاب)، وهو ما أجمع عليه جميع من تحدثوا لـ"الأيام" عنه، فهو شاعر هجّاء أيضاً، كتب عشرات قصائد الهجاء التي لا تخلو من السّخرية، فهو ساخر بطبعه، غير أنّه لم ينشر قصائده في الهجاء، وإن كان يلقيها على مسامع أصدقائه، وقد أوصل قصائد هجائه إلى من هجاهم من المتسلقين والمنتفعين".
ولفت السلحوت إلى أن البكري الذي وصف نفسه بـ"صعلوك من القدس القديمة"، كان متأثراً بعروة بن الورد، وهو من الصّعاليك الذين كانوا يعطفون على الفقراء والمساكين، وكان البكري يحفظ لاميّته عن ظهر قلب.
ويشير السلحوت إلى قصيدة شهيرة يقول فيها: "لا تستبشري يا قدس"، معتبراً إياها بمثابة تنبؤ بالموقف العربي والإسلامي تجاه المدينة، لافتاً إلى أن البكري عانى في آخر عشرين عاماً من حياته من انزلاقات غضروفية في العمود الفقري سببت له إعاقة حركية، وبقي جلّ وقته حبيس منزله.
واعتبره الكاتب والأديب أسعد الأسعد أيقونة ورمزاً من رموز القدس، التي أصبحت "ناقصة" بغيابه، لافتاً إلى أنه ربما يكون الصعلوك الوحيد في المدينة، ليس فقط بالمفهوم الحياتي، لكن بالمعنى الشعري، كشاعر رصيف، قائلاً لـ"الأيام": صورته لا تزال محفورة في ذاكرتي، وهو يتجول في شوارع القدس وحاراتها وأزقتها كصلاح الدين وباب العامود وأسواق البلدة القديمة، أو جالساً برفقتي في قهوة زعترة.
ووصف الأسعد الراحل البكري بكونه "النسخة المقدسية" من مظفر النوّاب، فقد كان يتهكم على الشخصيات المتسلقة، ولا يخشى أحداً، ومع ذلك كان محبوباً من الناس، لكونه صادقاً، حتى في تهكمه، وفي جرأته الكبيرة في نقد المجتمع وشخصياته وظواهره الاجتماعية، خاصة تلك التي برزت بعد احتلال العام 1967، لافتاً إلى أن صداقتهما بدأت منذ تزاملهما في جريدة "الفجر" المقدسية، في فترة شهدت صعوداً ثقافياً كبيراً في الأرض المحتلة.
وكشف الأسعد لـ"الأيام" أن للراحل قصائد لم تُنشر بعد، وأنه يعتزم جمعها بالتنسيق مع أسرته وأصدقائه بهدف طباعتها في مجموعة ستكون لها خصوصيتها وفرادتها.
الشاعر نبيل الجولاني، اكتفى بالقول، وبلغة شعرية مكثفة: "فوزي البكري جعل قلبه قنديلاً يطوف فوق أسوار القدس يقرع الأجراس تارة وتارة يؤذن، ويأتي لحناً للقدر كالحب الأخير بعد حنينه إلى البيت الأول.. الشاعر البكري يتميز بالنص الأدبي، بناءً ولغة وموضوعاً وموقفاً شجاعاً. إنه شاعر جاد لا يهادن التكتيك، ولا يصالح الأيديولوجيا، ولا يتعامل مع خير الأمور أوسطها. دفع الكثير من أجل موقفه المبدئي ليدفع الكثيرين كي يتمسكوا بالثوابت ويحرسوها".
وفي العام 2018، أصدر مركز يبوس الثقافيّ في القدس كتاباً تكريمياً له حمل عُنوان "فوزي البكري.. قيثارة تحت نافذة القدس"، ضم مقالات وكلمات في الشّاعر وشعره ومختارات من أشعاره، في إطار مبادرة لتكريم عدد من مبدعي القدس كما كشفت رانية إلياس، مديرة المركز، وقتذاك.
أما صاحب المبادرة، ومعد مقدمة الكتاب، الناشط الثقافي والكاتب خالد الغول، فلفت في حديثه لـ"الأيام" إلى أن اختيار البكري جاء لكونه معروفاً لدى عامة الناس البسطاء، وكان يكتب دائماً عنهم وعن قضاياهم ومشاكلهم، واختار أن يُعرّف بأنه "صوت الغلابة"، هو الذي لطالما التصقت هويته الشعرية بالناس، حيث كانت جميع قصائده وأشعاره وزجلياته تعبيراً عن نبض العامة، وهمومهم، وصرخاتهم، بأسلوب إبداعي وشعري رفيع، لافتاً إلى أنه شكّل حالة ثقافية وشعرية تعبر عن المثقف الذي لا يقبل بالظروف السائدة، في ظل هيمنة "المتذيلين والمستفيدين والمنتفعين"، مشيراً إلى أن بقاءه في مدينته كان يشكل له هاجساً وتحدياً كبيراً، حيث كان يشعر بالقلق والغربة والوحدة، وكان مصراً على ألا يموت إلا في أزقة البلدة القديمة، وهي الأمنية التي تحققت.
0 تعليق