تعكس مشاهد التفاعل الأوروبي التضامني النوعي، مؤخرا، على الصُعد السياسية، والشعبية، والإعلامية، والقانونية، والإنسانية، مع القضية الفلسطينية بالعموم، والوقوف ضد جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني في غزة بالخصوص، حجمَ النقلة الهائلة، مقارنة بما كان عليه الحال في نفس الفترة قبل سنتين إبان اندلاع الأحداث، والشروع بمسلسل الجرائم التي ارتكبت في غزة وعز نظيرها في التاريخ، ووثقتها عدسات الصحافة ووسائل الإعلام لحظة وقوعها دون رتوش.
وتتسم هذه المظاهر بالجدية والوضوح في المطالب على الصعيدين؛ الرسمي، والشعبي، على حد سواء.
فعلى الجانب الشعبي، تعكس الإحصاءات الصادرة من المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام، أن عدد المظاهرات خلال الـ 730 يوما الماضية من عمر الإبادة الجماعية، قد بلغ أكثر من 45 ألف مظاهرة تضامنية فيما يقرب من 800 مدينة أوروبية ممتدة على جغرافيا 25 دولة أوروبية، خلاف فعاليات المملكة المتحدة، وإذا ما أضفنا أرقامها حسب النشطاء في لندن، فسيربو عدد مظاهرات التفاعل على الـ50 ألفا في عموم التراب الأوروبي جغرافيا من شرقه لغربه.
ويكشف الإحصاء الأول الذي صدر عن نفس المركز بعد التسعين يوما الأولى (أوائل سنة 2024) من اندلاع الأحداث، مدى تصاعد زخم الدعم للقضية واتساعه، حيث كان وقتها أكثر من 6 آلاف مظاهرة موزعة على 400 مدينة في 15 دولة.
وهنا استعراض سريع لصور الجموع الهادرة التي اخترقت شوارع وسط العواصم الغربية، كما في برلين في27 سبتمبر/أيلول الماضي، وقد فاقت الـ100 ألف مشارك، وكذلك الحال في روما في الرابع من الشهر الجاري، والتقدير ربع مليون متظاهر، وفي نفس اليوم مدريد، وقدّر المنظمون العدد بنصف مليون، واليوم التالي في العاصمة الهولندية في مسيرة الخط الأحمر (وهي الثالثة من نوعها)، والأعداد تجاوزت ربع مليون.
إعلان
ويجدر التوقف عند أسطول الصمود العالمي وامتداداته الأوروبية، إن بالمشاركة في التنظيم، أو في إبحار المتضامنين الأوروبيين بالعشرات (والعديد منهم ليست المرة الأولى)، عبر المتوسط نحو غزة في محاولة لكسر الحصار، وإيصال المساعدات، وما يحفّ ذلك من مخاطر تصل إلى الموت، علاوة على الإسناد للأسطول عبر الأراضي الأوروبية في جنبات القارة من قبل متضامنين آخرين، والخروج بعد ذلك في مظاهرات غاضبة عارمة بعد منتصف ليلة القرصنة من قبل جنود دولة الاحتلال، والاعتداء على سفن الأسطول جميعها.
وتستحق الفعاليات الشعبية في إيطاليا تحديدا- والمتضامنة مع فلسطين والمستنكرة للإبادة الجماعية في غزة- الإضاءة عليها، إذ يمكن وصفها بالتاريخية بامتياز؛ فمنها إضرابان متتاليان للنقابات يومي 22 سبتمبر/ أيلول الماضي، والثالث من الشهر الجاري، والأخير كان من أجل التضامن مع أسطول الصمود العالمي، واستنكارا للاعتداء عليه، ويقدر النشطاء هناك أن عدد الذين شاركوا في الإضرابين يزيد على 6 ملايين مواطن إيطالي.
ثم نذكر في دولة أخرى، ما هو نوعي في حقل الرياضة، حيث أقدم نادي أتلتيك بلباو الإسباني يوم الأحد الخامس من الشهر الجاري، على إعلان التضامن الرسمي مع فلسطين وأهل غزة، وذلك في الذكرى 125 لتأسيس النادي، واستضافة مجموعة من الفلسطينيين المقيمين في إقليم الباسك المحلي (محضن النادي)، وممثلين عن وكالة الأونروا، وذلك قبيل مباراته مع نادي ريال مايوركا في الدوري الإسباني، وما يعنيه ذلك من إمكانية أن تنتقل عدوى تلك المبادرة الإيجابية لأندية أوروبية أخرى ذات شعبية طاغية، وللدوريات الأكثر مشاهدة ومتابعة عبر العالم.
مجالات الدعم والإسناد للشعب الفلسطيني وقضيته أكبر وأوسع وأكثر من أن تحدها سطور قليلة في كل قطاعات النقابات: الطبية، والهندسية، والفنية، والأكاديمية، وأروقة الجامعات بشقَّيها؛ الطلابي، وهيئات التدريس، وأيضا مجاميع العمال بمختلف مهنهم.
لعل ما تقدم من تنامي واتساع واستمرار التضامن الشعبي مع فلسطين، هو من العوامل المتقدمة التي أفرزت تخلخلا حقيقيا ونوعيا- وجذريا أحيانا- في المواقف السياسية للدول الأوروبية، سواء بشكل جمعي اتحادي، أو قُطري، وكذلك تتابع الاعترافات بالدولة الفلسطينية من قبل معظم الدول الأوروبية، أو بصورة قُطرية حادة، كما هو حال إسبانيا، وأيرلندا، حيث وصل الأمر إلى سحب السفراء مع دولة الاحتلال، وأيضا المواقف الجديدة التاريخية لفرنسا وبريطانيا، والعقوبات بحق الوزراء الإسرائيليين، وإصدار قرار بمنع تصدير قطع السلاح لجيش الاحتلال، حتى من ألمانيا.
ولا بد من الإشارة إلى عوامل جانبية عديدة محلية ودولية أدّت إلى تغير مواقف بعض الدول؛ منها أن الحكومات الأوروبية بنسبة ليست قليلة هي حكومات أقليات، أو تواجدها مهزوز في دفة الحكم، ومثال صارخ لذلك فرنسا، حيث إن حزب فرنسا الأبية- الذي فاز في الانتخابات الأخيرة بأعلى الأصوات، وهو الذي يدعم القضية الفلسطينية، وسياسيوه من النشطاء في الميدان لأجل فلسطين- يجلس في كرسي المعارضة، مما يمثل خللا سياسيا واضحا، يؤدي دائما إلى ضعف الرئيس ماكرون أمامه. وهذا أحد التفسيرات للاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية.
إعلان
وهناك عوامل عديدة أخرى على الصعيد القُطري لكل دولة على حدة، وأخرى قارية ودولية، لا يتسع المجال لذكرها في تناولنا موضوع هذا المقال.
ولإكمال الصورة نحتاج أن نستعرض بعض العوامل العديدة والمتراكمة التي أدت مجتمعة إلى المرحلة الحالية، أي ذروة التفاعل الإيجابي مع القضية الفلسطينية؛ أولها وأهمها هو حجم وعِظم المجازر، وجرائم الإبادة الجماعية، ومتابعة الإعلام العالمي لها، ووصول ذلك حتى لغير المهتمين بالسياسة والأحداث.
لقد أصيب العالم، ومنه الأوروبيون، بحالة صدمة وذهول؛ جراء الجرائم التي طالت كل شيء من بشر وحجر، وكل ما يمتّ للإنسانية بصلة، فلم تترك آلة الحرب الإسرائيلية شيئا أو مجالا أو تخصصا في قطاع غزة إلا وطالته، وكذلك عدم الاكتراث لا لأطفال ولا نساء ولا شيوخ، بكل أوضاعهم وأحوالهم، وسياسة التجويع التي غطت شاشات الإعلام العالمي بما فيها من تجويع الأطفال حتى الموت. وكذلك حرق الغزيين أحياء، وغير ذلك من مشاهد مروعة.
وهنا لا بد من التوقف عند نماذج التضحية والمعاناة التي عز نظيرها، وتربعت بإجلال في الضمير العالمي من قبيل الدكتورة آلاء النجار التي فقدت تسعة من أبنائها. وتجدر الإشارة والإشادة بالحرص الشديد من أبناء غزة، على نقل صور المعاناة والقتل والتهديد بصنوفها وبأشكال عديدة للعالم أجمع.
كما نذكر بإجلال الصحفيين الغزيين الذين استشهد منهم أكثر من 250 صحفيا وصحفية، وهم ينقلون الأحداث والجرائم والمعاناة، مما كان له الأثر البالغ في صناعة المشهد العالمي الفلسطيني الغزي.
ومن عوامل صناعة المشهد الأوروبي فلسطينيا أيضا، أداءُ وسلوك وعنجهية ساسة وجنود دولة الاحتلال، وغرورهم وصلفهم، وعدم اكتراثهم بالعالم أجمع: شعوبه، وسياسييه، ومؤسساته الدولية، والمحلية. حتى بعد ملاحقتهم من قبل محكمتَي العدل الدولية، والجنائية الدولية، وملاحقة نتنياهو ووزير الحرب السابق غالانت كمجرمَي حرب.
ونضيف في الاتجاه الآخر للتأثير على الرأي العام في أوروبا، عدمَ قدرة دولة الاحتلال على تحقيق الأهداف المعلنة لها، مع أداء المقاومة الفلسطينية النوعي.
ومع هذين المشهدين طالت مدة الحرب التي تشنها دولة الاحتلال على الشعب الفلسطيني في غزة، مما جعل السردية الفلسطينية تأخذ مداها وتتغلغل في العقل الجمعي الغربي، فأفرز ذلك انقلابا حقيقيا، وأدى إلى عزلة حقيقية لدولة الاحتلال، ويلاحظ ذلك بوضوح في جنبات القارة الأوروبية.
لقد فرضت القضية نفسها على كل من أنكر الحقيقة منذ اندلاع الأحداث، وفي مقدمة ذلك الإعلام العالمي، حتى الداعم لدولة الاحتلال.
كما دخل مؤثرون عالميون نوعيون في دعم مظلمة فلسطينيي غزة، مثل (مس راشيل) صانعة المحتوى للأطفال في المراحل العمرية الأولى، والتي يصل تعداد مشاهدي تفاعلاتها مليارا عبر العالم بين الأطفال وذويهم.
ومما عزز استمرار هذا التضامن، أيضا؛ قوة تماسك حركة التضامن وقوة تنسيقها واتساع نفوذها ودخول فاعلين جدد، وانخراط الشباب، وسلوك مجالات نافذة في الإعلام الجديد، وبروز مؤثرين جدد، وقد كان لحراك الجامعات وإضراباتها – وإن لفترة – الأثر الملحوظ في إذكاء روح التظاهر.
حيث تجاوز تنسيق المتظاهرين الحدود القُطرية للبعد القاري، ودخل حيز العالمية في بعض الأنشطة كمسيرة الصمود، وكذلك أساطيل كسر الحصار عبر البحر المتوسط نحو غزة.
ويبقى سؤال جوهري في مدى استدامة هذا المخزون من التضامن الأوروبي بعد توقف العدوان؟
إن أحداثا بحجم التي حصلت في غزة طوال عامين من حرب الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والتهجير- والتي راح ضحيتها أكثر من ربع مليون من أبناء الشعب الفلسطيني بين شهيد وجريح ومفقود- ليس من السهل أن تمحى من الذاكرة في أمد قصير، خاصة مع وجود عوامل تغذي بقاء تفاصيلها حية وشاخصة في عيون العالم، ومن أهمها الاحتلال الذي، يقينا، لن يغير سلوكه في الاعتداء، وقد أصبح ديدنا ملازما لوجوده.
إعلان
ولكنه سيحاول، كما سياسته، أن يقلب الطاولة على الشعب الفلسطيني عالميا وأوروبيا، وقد بدأ- بالفعل- نتنياهو في محاولة التأثير مجددا على وسائل الدعاية العالمية، والتواصل الاجتماعي.
ولذا مطلوب وبشكل عاجل فلسطينيا وممن يتضامن مع فلسطين في البعد القومي والإسلامي والإنساني الأممي، أن يصار إلى خطة متكاملة للعمل على استدامة زخم التضامن.
لا بد من الاعتراف بأن الوضع الفلسطيني الداخلي لا يبشر بخير في هذا المجال، فإلى جانب هذا العنوان هناك عناوين عديدة تحتاج لنهضة فلسطينية داخلية حقيقية تفرز قيادة من رحم الشعب وبشكل ديمقراطي يخرج القضية من المأزق الحالي، حيث تتمترس مجموعة بتصدّر المشهد القيادي الفلسطيني، دون إرادة حقيقية من جموع الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج على حد سواء.
ولذا فإن هناك حاجة فلسطينية- من قبل كل النافذين: فصائل، ومؤسسات، ونخب- إلى العمل لتكوين جبهة عريضة لا تستثني أحدا، تتصدر المشهد القيادي الفلسطيني، وتشرع على الفور في محاولة معالجة كل المطلوب، ومن ذلك استثمار التضامن العالمي، ومن ضمن مهامها أيضا أن تخرج قيادة فلسطينية منتخبة وبشكل ديمقراطي تتسلم زمام الأمور، بما فيها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
لكن الخشية أنه في حال عدم العمل على ذلك، سيجد الشعب الفلسطيني نفسه بناء على الاعترافات الدولية بدولة فلسطين، أمام اتفاق أوسلو جديد بكل سلبيّاته وعوراته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق