نظرية المؤامرة بين المطرقة والسندان - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تتكاثر الأصوات العالية أكثر من الحقائق، وتتناسل الأخبار بسرعة الضوء، وتقف نظرية المؤامرة بين مطرقة الشكّ وسندان الحقيقة.

إنّها ليست فكرةً جديدة وُلدت مع الإنترنت، بل هي ظاهرة قديمة قِدم الإنسان نفسه.. تولد من رحم الخوف، وتعيش على غموض الأحداث، وتنتعش حين يختفي الضوء في كواليس المعلومة.

منذ العصور الأولى، كان الإنسان إذا عجز عن تفسير ما يجري حوله، لجأ إلى تصوّر «يدٍ خفيّة» تُحرّك الأمور من وراء الستار. فالعقل البشري يكره الصدفة، وينفر من العبث، ويجد راحته في وجود «فاعلٍ» لكلّ ما يحدث، حتى لو كان هذا الفاعل مجهولاً أو متخيّلاً.

هكذا ولدت نظرية المؤامرة كاستجابةٍ نفسيةٍ قبل أن تكون فكرة سياسية أو إعلامية.

لكنها لم تكن دائماً شرّاً خالصاً..أحياناً كان الشكّ نعمةً، ومن دون هذا الشكّ ما اكتُشفت الجرائم، ولا انكشفت الخيانات، ولا انهارت الأنظمة الفاسدة.

غير أن الخطر يبدأ حين يتحوّل الشكّ إلى يقينٍ مَرَضيّ، يرى في كل شيء مؤامرة، وفي كل نجاحٍ يداً خفية، وفي كل مصادفةٍ ترتيباً مقصوداً.

هنا يتحول الإنسان من باحثٍ عن الحقيقة إلى أسيرٍ للوهم، ومن متأمّلٍ في الأحداث إلى منساقٍ خلفها بلا وعي.

في عصرنا الرقمي، تغيّر وجه المؤامرة جذرياً.. لم تعد قصةً تُروى في المجالس، بل صناعةً معقّدة تُدار بذكاء، وهناك من يكتب الرواية، ومن يموّلها، ومن يضخّها في الفضاء الإلكتروني عبر آلاف الحسابات والمنصّات.

هناك خوارزميات تدفع بالمعلومة المضللة لتصبح «ترنداً»، وجيوش إلكترونية تخلق الإجماع الزائف، ومؤثرون يُعيدون إنتاج الشكّ بثوبٍ أنيقٍ من التحليل «الخبير».

لقد انتقلت المؤامرة من الظلّ إلى الضوء، لكنها بقيت مظلمة في جوهرها.

اللافت أنّ نظرية المؤامرة صارت بدورها أداةً للمؤامرة نفسها!! تُستخدم لتشويه الحقائق أو إسكات الأصوات أو صناعة أعداء وهميين.

من السهل اليوم أن تتهم أيّ رأيٍ معارض بأنه جزء من مؤامرة، كما يسهل أن تُشيطن المؤسسات الوطنية أو القرارات السياسية تحت نفس المبرر، وهنا تكمن المفارقة الكبرى: المؤامرة التي كانت في الأصل بحثاً عن «الفاعل الحقيقي» أصبحت سلاحاً يُستخدم ضد الحقيقة ذاتها.

ولفهم سرّ جاذبيتها، علينا أن نسأل: لماذا نُصدّقها رغم هشاشتها؟

لأنها تُريحنا!!

الحقيقة دائماً معقّدة، مليئة بالتفاصيل الرمادية، بينما المؤامرة تُقدّم تفسيراً بسيطاً وجاهزاً.. هناك من يُخطّط ضدّنا وتُعفينا من عناء التفكير، وتمنحنا شعوراً زائفاً بالفهم والسيطرة. إنها تروي حكايةً مثيرة تجعلنا أبطالاً في مواجهة «عالمٍ شرير»، حتى لو كان هذا العالم من نسج الخيال.

ومع ذلك، لا يمكن أن نُسقطها كلياً من قاموس الواقع، فالتاريخ مليء بالمؤامرات الحقيقية: انقلاباتٌ سريّة، تحالفاتٌ خفيّة، عملياتٌ استخباراتية، وتلاعبٌ بالرأي العام.

لكنّ الفرق بين الحقيقة والوهم هو الأدلة، وليس حجم الضجيج.

من يسير على خطّ الوعي يدرك أنّ الشكّ ليس إيماناً بالمؤامرة، بل وسيلةٌ لكشفها إن وُجدت.

أما من يسقط في فخّها فيحوّل الشكّ إلى صنم جديد، يعبده دون منطق.

اليوم، يعيش العالم على إيقاع أزمة الثقة.. ثقةٌ مفقودة بالإعلام، بالسياسيين، وحتى بالعلماء.

وكلّما انهارت هذه الثقة، ازداد عطش الناس لتصديق أيّ روايةٍ بديلة، مهما كانت عبثية.. فحين يفقد الإنسان ثقته بالمصدر الرسمي، يُصبح مستعداً لتصديق «العابث» الذي يهمس له في زاوية مظلمة من الشبكة.

وهكذا تتحول نظرية المؤامرة من «تفسيرٍ للأحداث» إلى بديلٍ عن الواقع نفسه.

الدهشة أن بعض الأنظمة والأطراف تستغلّ هذه النظريات عمداً وتُطلق شائعة، ثم تُنكرها، ثم تدير فوضى الشكّ التي تليها لتُضعف وعي الجمهور. إنه أسلوب قديم يُسمّى «الفوضى المنضبطة»، حيث يُترك الناس يتخبطون بين المطرقة والسندان حتى يفقدوا القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال. وحينها، يصبح من السهل توجيههم نحو أيّ روايةٍ تُريدها الجهة التي تملك المعلومة والمال والمنصّة.

أخيراً، لا يمكننا أن ننكر أنّ العالم مليء بالمصالح المتقاطعة، وأنّ «النية الخفية» ليست خرافة دائماً، لكن الوعي هو الفاصل بين من يرى الظلال ويظنها أشباحاً، ومن يدرك أن الضوء نفسه قد يُخفي خلفه غرفةً مظلمة. نظرية المؤامرة بين المطرقة والسندان هي معركة الإنسان الدائمة بين الخوف والعقل، بين الحاجة للتفسير والرغبة في الأمان.

الناجون من هذا المأزق ليسوا أولئك الذين يرفضون المؤامرة أو يقدّسونها، بل الذين يملكون القدرة على التفكير المتزن.. لا يصدقون كل شيء، ولا يكذّبون كل شيء، بل يمشون على الحبل الرفيع بين الشكّ واليقين، حاملين وعيهم كدرعٍ ضدّ المطرقة، وحقيقتهم كسندانٍ يثبتهم وسط العاصفة.

ففي زمنٍ لم يعد العدوّ فيه يختبئ في الكهوف، بل في العقول، يصبح التفكير النقديّ هو آخر أشكال النجاة من مؤامرةٍ أكبر من أن تُرى.

أخبار ذات صلة

 

0 تعليق