Published On 25/9/202525/9/2025
|آخر تحديث: 12:09 (توقيت مكة)آخر تحديث: 12:09 (توقيت مكة)
مشروع أسماء صديق للرواية الأولى بالتعاون مع دار الآداب اللبنانية مشروع هادف يقدم الفرصة التي يفتقدها الكثير من الكتاب الروائيين في عالمنا العربي، إذ تتقدم لجائزة أسماء صديق للرواية الأولى العشرات من المخطوطات لروايات غير منشورة، لتنشر دار الآداب العريقة والتي لها الدور الأبرز في المكتبة الروائية العربية بنشر العمل الفائز. جائزة نزيهة تمد يد العون للروائيين الشباب بعيدا عن صخب الجوائز الأدبية الأخرى التي تنعق فوق رؤوسها الكثير من علامات الاستفهام.
في العام 2024 فازت رواية "مواسم القرابين" للروائي الصومالي الشاب صالح ديما، ونشرت دار الآداب في نفس العام هذا العمل الواقع 382 صفحة في طبعته الأولى.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listالرواية وبداية بالإهداء تبدو مشحونة بالكثير من العواطف المتشنجة والمتوترة إذ يهدي ديما روايته للكثير من الذين مروا بمسيرته الإنسانية، بدءا من العائلة… الوالد والوالدة والجد والجدة، انتهاء بأصدقاء عابرين مرورا بأخ لم تربطه به رابطة الدم، ولكن رابط الوطن.
هو الاقتلاع القسري ما شغل ديما في روايته. الاقتلاع من الهوية المفقودة، من الوطن المترنح بين مطرقة الحرب وسندان الخلاص المرجو. هذا الاقتلاع من الجذور الذي يشوه الحاضر، يعبث بالماضي ويضبب المستقبل، لتبدأ رحلة طويلة من المعاناة والتشرذم بين أرض تنزف تحت نير أمراء الحرب، وأراض أخرى قالوا إنها الجنة المبتغاة.
ربما يجهل الكثير، وأنا منهم، تفاصيل الحرب الأهلية الصومالية في بداية تسعينيات القرن الماضي، عندما أحس الصوماليون فجأة أنهم أعداء وعلى كل فريق نهب الكعكة قبل أن يسبقه الطرف الآخر لتقطع أوصال الوطن بين مخالب تنهش وتمضي. ومن يدفع الثمن؟ كعادة الحروب، تلقي أحمال خيباتها وفشلها على من ليس لهم في آلة الحرب يد، أولئك القابعين في بيوتهم وغير الطامعين إلا بنفحة أمان ترطب وجوههم التي شققها اليأس والخوف.
إنه ليس العراء الجسدي الذي ألقي به "مرقان" وعائلته في ليلة بكى فيها قمر أمنهم عندما نبح الرصاص كحيوان ضار وجائع يبتلع من دون إجهاد أسنانه في مضغك، بل هو العراء الإنساني الذي يلتصق باللاجئ أينما حل وارتحل. هذا العراء الموحش الذي يجرد الفرد من إنسانيته وكينونته ووجوده ويشعره أنه عالة على هذا الكوكب، يتخبط كرة ممزقة بين أقدام تركله من بلد لآخر كجيفة وجب التخلص منها قبل أن تفوح رائحتها.
إعلان
تجسد الرواية التصدع الذي يعيشه اللاجئ، وما أكثرهم في بلداننا العربية. فنجاة الجسد من قعقعة الحروب، لا يعني أبدا النجاة من ثقل الذل الذي يتكبده ذاك الغريب التائه في بلاد الله التي في علمنا أنها واسعة، لكنك فور انتعالك قطار اللجوء تكتشف أنها أضيق من فوهة بندقية تبصق على الأجساد موتا أبديا.
التشظي المعاش في رواية "مواسم القرابين" إنسانيا كان له الأثر الكبير في سردية النص، إذ ينتقل الحكي بين الماضي والحاضر وفي أحيان أخرى إلى السرد الاستشرافي، ممتطيا صهوة زمن ومكان متكسر كرحلة لجوء مرقان وعائلته بين الصومال وكينيا والسعودية في مقاربة مؤلمة لماض جميل في كيسمايو الصومالية، مؤلم في داداب الكينية، وقلق في نيروبي وجدة. ماذا حصل للأمس الدافئ في بيت آمن مع عائلة ترعى؟ ماذا حصل للأعياد والمناسبات السنوية والتجمعات الأخوية؟ وكيف احترق خضار أشجارها وبات رمادا يعمي الأعين ونارا تحرق الأقدام، وجوعا يبقر البطون؟ كيف تحولت حلوى العيد إلى علقم التغريب؟ وكيف بات سرير الطفل عراء؟
لصالح ديما أسلوب مميز في القص مشحون بالصور البلاغية والفلسفية العميقة. قد لا تخلو جملة من جمله من تشبيه، استعارة، كناية، أو مجرد لفظ يبهرك ويجعلك تتأمله كمن يأكل بتمهل قطعة حلوى لذيذة يخاف أن تنتهي.
"أنا اسم معمي. أنا تيه يسافر بلا انقطاع، متشردا، منفيا من المهد إلى اللحد. أنا من جاب الدنيا باحثا عن وطن يحتويني ويضمني، وطن أركن إليه. لكنني تعبت من الترحال، وانتهيت إلى بحر مفتوح بقارب مثقوب." ص381.
اعتمد ديما في روايته زمن المضارع البسيط في أغلب جمله، لكن الرواية تخللتها بعض الجمل الاستشرافية في زمن المستقبل أضفت طابعا أعمق لرؤى الشخوص للغد. كما وكانت غالبية بداية المقاطع بالجمل الفعلية، مع الكثير من الجمل الأخرى البادئة بجمل اعتراضية أو اسمية، الشيء الذي نوع طرق السرد وخلق انسيابية لا يقيدها زمن أو فعل. كما يلاحظ القارئ الكثير من التقديم والتأخير بين المبتدأ والخبر عارضا تمكنا لغويا ملحوظا للكاتب.
وفي ما يخص اللغة، يشكر الكاتب على تعريفنا بالكثير من المصطلحات الصومالية بلهجات مختلفة، كاللهجة السواحلية، مع وجود شروحات لهذه الكلمات التي سهلت علينا مهمة التعرف إليها لصعوبتها. مما رفع مستوى النص إلى المحسوس والمعاش. فهنا نحن أمام تجربة فريدة للتعرف إلى ثقافة الصومال، ليس فقط الاجتماعية، بل أيضا اللغوية. أوليست اللغة هي من أركان ثقافات الشعوب الأساس؟
كذلك، استخدم الكاتب تقنية ازدواجية التناص الديني، سواء التوراتي، الإنجيلي أو القرآني، على صعيد اللغة والفكرة. ففي النص الكثير من الآيات المقتبسة من القرآن الكريم، والمصطلحات القرآنية الأخرى في البنية السردية عن لسان الراوي، وهو بطل الرواية نفسه، أي الراوي الأول. كما يمكن إسقاط الهرب من الصومال على سفر الخروج في التوراة. كما ويمكن إسقاط كلمة القرابين في العنوان على القربان المقدس عند بعض الطوائف المسيحية كالكاثوليكية والأرثوذكسية.
"مواسم القرابين" تناقش وتسأل وتسائل وتطرح أزمة الهوية والانتماء بجدية ووضوح، بلغة وسردية خطابية معقدة وشائكة على الصعيدين التعبيري اللغوي الملموس، والمعنوي المحسوس. هي شهادة حقيقية لماض مسكوت عنه في الرواية العربية ودعوة للاستفادة من أخطاء الأمس.
إعلان
هي رواية تقول لنا، لا منتصر في الحرب. والرابح فيها خاسر… ولو بعد حين.
0 تعليق