موسوعة غوستاف دالمان: فلسطين العتيقة بعيون ألماني وألسنة فلاحيها! - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 

كتب يوسف الشايب:

 

في شهادة حية ونادرة على عمق وتجذر المجتمع الفلسطيني قبل النكبة، استضاف متحف محمود درويش في مدينة رام الله، مساء أول من أمس، ندوة بعنوان "غوستاف دالمان: العمل والعادات والتقاليد، شهادة حول المجتمع الفلسطيني قبل النكبة"، وقدّمت عرضاً شاملاً للموسوعة الضخمة التي وثقها الباحث الألماني غوستاف دالمان، وصدرت بالعربية في عشرة مجلدات، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بشرح مفصل من د. محمد أبو زيد، المترجم الرئيس لها.
وفي الندوة التي أدارها الباحث في التراث الثقافي الدكتور حمدان طه، أوضح أبو زيد أن هذه الموسوعة تتألف من تسعة مجلدات بالإضافة إلى مجلد خاص أُضيف لاحقاً بعنوان "القدس ومحيطها الطبيعي"، وأن دالمان اعتمد في عمله، الذي كتبه بالألمانية، على مصادر لغوية متعددة، مستعيناً بمفردات من السريانية والآرامية واللهجة الفلسطينية الدارجة، بالإضافة إلى العبرية واليونانية، لكن الأهم، كما ذكر، أن دالمان "كان يسمع شو بينحكى وبيكتب"، ما حوّل عمله إلى سجل إثنوغرافي فريد للحياة اليومية الشفهية في فلسطين.
يكمن سر قوة عمل دالمان في منهجيته التي تجاوزت مجرد البحث الأكاديمي، باعتباره لم يكن باحثاً منعزلاً، بل كان مستمعاً دقيقاً يُسجل ما يسمعه مباشرة من أفواه الفلاحين والبدو وأهل المدن، وهذا النهج الميداني جعل من موسوعته سجلاً نابضاً بالحياة، لا يحفظ الأحداث فحسب، بل النبرة واللهجة والمفردات التي استخدمها الناس، وكانت متشبعة بآثار لغات قديمة كالسريانية والآرامية، ما يظهر العمق التاريخي المتجذر في لسان أهل البلاد.
حوّل دالمان، وفق ما أكد أبو زيد، الثقافة الشفهية، بكل ما تحمله من شعر شعبي وأدعية وأمثال ونقد اجتماعي ساخر، إلى وثيقة تاريخية خالدة، مقدماً للعالم صورة عن مجتمع حي، مبدع، ومتصل بتاريخه بشكل عضوي.
وكان تركيز دالمان على العلاقة الوجودية بين الفلسطيني وأرضه، أحد أبرز محاور الندوة، فالموسوعة لا تفصل الإنسان عن بيئته، بل تعتبر أن الجغرافيا والمناخ يشكلان إيقاع الحياة، ويتجلى ذلك في تحليله الدقيق للقدس، حيث رأى مؤلفها أن أهميتها تكمن في موقعها وطبيعتها الجغرافية أكثر من قداستها المجردة، ما دفعه إلى توثيق كل وادٍ ومرتفع ومصدر مياه.
هذه النظرة تمتد لتشمل التقويم السنوي، فقد أظهر دالمان كيف أن دورة الزراعة والمواسم، المرتبطة بالأعياد المسيحية كعيد الصليب، كانت التقويم الحقيقي الذي ينظم حياة المسلمين والمسيحيين على حد سواء، في شهادة على وحدة المجتمع وتجانسه الثقافي المتجذر في الأرض.
هذه الدقة المتناهية في الملاحظة تصل إلى حد توثيق الأبعاد الهندسية لكعك القدس، وأنواع الأقمشة المستخدمة، وأدوات الزراعة، وحتى النداءات التي يطلقها الفلاح على دوابه أثناء الحراثة.
كل هذه التفاصيل الصغيرة ترسم مجتمعة صورة لمجتمع منتج، له نظمه الاقتصادية والاجتماعية والجمالية الخاصة، بعيداً عن صورة الفراغ التي حاول الاحتلال تسويقها لاحقاً.
وربما تكون الرسالة الأهم التي تحملها الموسوعة اليوم هي تلك الدعوة الملحة التي أطلقها دالمان قبل أكثر من قرن، حين حث الفلسطينيين على توثيق ثقافتهم بأنفسهم قبل أن يطمسها التأثير الأوروبي الوافد، وكأنما كان يرى ببعد نظر الخطر الوجودي المحدق بهذه الثقافة الغنية.
واليوم، وفق ما أكد أبو زيد، لا تمثل ترجمة وإعادة نشر هذه الموسوعة مجرد عمل أكاديمي، بل هي فعل استعادة لذاكرة وهوية، وتأكيد على أن هذا المجتمع الذي وثقه دالمان بكل هذا العمق والتجذر، لم يكن مجتمعاً عابراً، بل هو صاحب الأرض والتاريخ والحكاية، خاتماً باقتباس مباشر ومؤثر من مقدمة الموسوعة، بأن "على سكان فلسطين العرب أولاً وقبل كل شيء، وبفخر تبرره شخصياتهم الفذة وماضيهم، إقامة معلم لثقافتهم من خلال رواية مطابقة للحقيقة، دونما تلطيف أو تجميل، قبل أن يقوم التأثير الأوروبي بتمسيخها والقضاء عليها".

 

0 تعليق