نشأة وتطور التصوير الفوتوغرافي في القدس - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

التقطت أول صورة فوتوغرافية في مدينة القدس عام 1839، ومع أواخر القرن الـ19، أصبحت المنطقة الواقعة بين باب الخليل والباب الجديد مركزا نشطا للتصوير الفوتوغرافي. في هذا الحي أسّس المصور الأرمني كريكوريان أول أستوديو تصوير عام 1885، وتتلمذ على يده خليل رعد، أول مصور عربي في فلسطين. وبفضل هذا النشاط، تحوّلت المنطقة إلى فضاء بصري وثق تحولات المدينة.

الموقع

كانت المنطقة الواقعة بين باب الخليل من الخارج والمستشفى الفرنسي على الجانب الآخر من الباب الجديد من أبرز المناطق التي شهدت نشاطا فوتوغرافيا في القدس. ففيها أسّس المصورون الأوائل أولى الأستوديوهات الفوتوغرافية في فلسطين، مما جعل من هذا الحي ملتقى لممارسي التصوير ومقصدا للراغبين في توثيق حياتهم أو اقتناء صور للمدينة، وأصبحت المنطقة بمثابة "سوق القدس الفوتوغرافي".

التاريخ

بدأ التصوير في فلسطين عام 1839، وهو العام نفسه الذي أعلن فيه الفرنسي لويس داغير عن اختراعه. في البداية زار فلسطين مصورون أوروبيون ركّزوا على تصوير المواقع المقدسة المرتبطة بالسرديات الإنجيلية والتوراتية، إلا أن التصوير سرعان ما أصبح حرفة محلية مارسها أبناء البلاد بأنفسهم.

وأقدم الصور الفوتوغرافية للقدس هي من أعمال الفرنسيين فريدريك غوبيل-فيسكيه عام 1839، وجيرو دو برانجيه عام 1844. وفي عام 1860، أنشأ الأرمني أسايي غرابيديان أول ورشة لتعليم التصوير في دير القديس يعقوب بحي الأرمن، واضعا بذلك الأساس لما أصبح يُعرف لاحقا بالمدرسة الأرمنية في التصوير، والتي خرّجت مصورين بارزين في فلسطين وبلاد الشام، منهم تومايان وخالدجيان.

صورة لقبة الصخرة والمسجد الأقصى اخذت عام 1844 جوزيف فيلبيرت
من أقدم الصور لقبة الصخرة والمسجد الأقصى التقطت عام 1844(جيرو دو برانجيه)

من أبرز طلاب غرابيديان المصور الأرمني كرابيد كريكوريان، الذي افتتح أول أستوديو فوتوغرافي في شارع يافا عام 1885. وعلى يده تتلمذ المصور المقدسي خليل رعد، الذي افتتح أستوديوه الخاص عام 1890، وأصبح أول مصور عربي محترف في فلسطين.

تخصص كريكوريان في تصوير البورتريه، بينما اتجه رعد لتوثيق الحياة اليومية الفلسطينية. وقد تطورت العلاقة بينهما من تعاون ومنافسة إلى صلة قرابة بعد زواج خليل رعد من قريبة كريكوريان.

كما شارك في النشاط الفوتوغرافي مجموعة من المصورين الأوروبيين، من أبرزهم السويدي لويس لارسون، الذي عمل ضمن جماعة "الكولوني الأميركية" في القدس، ودرّب عددا من المصورين المحليين أمثال الأخوين نجيب وجميل ألبينا، وحنّا صافية، الذين أصبحوا من أعلام التصوير في فلسطين في النصف الأول من القرن الـ20.

إعلان

يُذكر أيضا أن أول مصور يهودي في القدس كان مندل دينس في خمسينيات القرن الـ19، والذي تعلم التصوير على يد المصور الأسكتلندي جيمس غراهام. ورغم قصر تجربته، فإنه يُعد من أوائل من أدخلوا هذا الفن إلى المدينة.

أعلام

إلى جانب كريكوريان ورعد، برز في تلك الفترة مصورون آخرون أمثال أوهانس كريكوريان (ابن كرابيد)، وحنّا صافية، وعلي زعرور، وسمعان السحار، وأستوديوهات مثل "إيليا" و"دينانا"، إضافة إلى مصوري "الكولوني الأميركية".

 خليل رعد أول مصور عربي بفلسطين

ولد خليل رعد في القدس عام 1869، ونشأ وأصبح من أبرز المصورين الفلسطينيين في عصره، وقد اشتهر بإنتاجه الغزير وحرفيته العالية. وبعد تدريبه على يد كريكوريان، سافر إلى بازل في سويسرا لاستكمال تعليمه، ثم عاد وفتح أستوديوه الخاص في شارع يافا. عُرف بقدرته الفائقة على التصوير الخارجي، وتقديم صور غنية بالتفاصيل توثق مختلف نواحي الحياة الفلسطينية. خلف رعد نحو 1230 صورة زجاجية تُعد وثائق مهمة، وقد شاركته أخته في العمل عبر تلوين الصور يدويا بالألوان المائية.

وبصفته مصورا رسميا في الدولة العثمانية، وثّق الحرب العالمية الأولى والحياة الاجتماعية في فلسطين، مقدّما بديلا موضوعيا للصور الاستعمارية الغربية.

معرض تكريمي لخليل رعد مؤسسة الدراسات الفلسطينية - palestine-studies.org
صورة شخصية للمصور الفلسطيني خليل رعد (مؤسسة الدراسات الفلسطينية)
علي زعرور

وُلد في بلدة العيزرية قرب القدس، وعمل مع الجيش البريطاني، ثم مع الفيلق العربي الأردني. رافق المقاتلين الفلسطينيين في حرب 1948، ووثّق معارك القدس بما فيها استسلام الحي اليهودي في 28 مايو/أيار من العام نفسه.

أنشأ ألبوما يضم نحو 380 صورة، توثق الحرب من دمار وشهداء ولاجئين إلى مفاوضات الهدنة. كما صوّر ملك الأردن عبد الله الأول قبل اغتياله. سُرق ألبومه في حرب 1967، وأخضع للرقابة الإسرائيلية، ولم يُفرج عن صوره إلا عام 2002.

سمعان السحار

عمل في مدينة القدس في فترة الاحتلال البريطاني، لكنه اضطر للانتقال إلى بيت لحم بعد النكبة، نتيجة وقوع محترفه ضمن "المنطقة الحرام" بين شطري المدينة، مما جعله غير قادر على الاستمرار في عمله هناك.

أميركان كولوني (المستعمرة الأميركية)

تأسست في القدس عام 1881 على يد حجاج مسيحيين من شيكاغو أطلقوا على أنفسهم اسم "الغالبون"، وانضمت إليهم لاحقا مجموعات من السويد عام 1896. أنشأت المستعمرة دائرة تصوير بارزة عملت بين عامي 1897 و1934، وأصبحت في حينها من أشهر أستوديوهات التصوير في الشرق الأوسط.

" frameborder="0">

الأخوان ألبينا

بدأ جميل ونجيب ألبينا مسيرتهما المهنية ضمن دائرة التصوير التابعة لـ"أميركان كولوني" في أواخر عشرينيات القرن الماضي، بعد أن تكفلت المستعمرة برعايتهما عقب وفاة والدهما. افتتحا أستوديو خاصا بهما في القدس عام 1935، عند زاوية طريق جوليان وشارع مأمن الله.

تخصص جميل في تصوير المواقع الدينية، بينما ركز نجيب على التصوير الصحفي وتوثيق الأحداث السياسية، خصوصا في الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939). كما عرف أستوديو ألبينا بصوره السياحية والتذكارية، وابتكر منتجا خاصا بعنوان "حديقة الجثمانية" ضم صورا للمواقع المقدسة.

واصل الأستوديو عمله رغم التحديات السياسية والاقتصادية، وازدهر أثناء الحرب العالمية الثانية نتيجة الانتعاش السياحي. ترك الأخوان ألبينا أثرا بصريا مهما في توثيق الحياة في القدس في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الـ20.

إعلان

حنّا صافية

وُلد في القدس عام 1910، وكان من أوائل الفلسطينيين الذين احترفوا التصوير الفوتوغرافي. بدأ مسيرته في سن مبكرة ضمن دائرة التصوير التابعة لـ"أميركان كولوني"، ثم انتقل للعمل مع إريك ماتسون في "خدمات تصوير ماتسون" الواقعة في الطابق الأرضي من فندق فاست في شارع يافا.

اشتهر بتوثيقه المناظر الطبيعية والتجمعات الفلسطينية، إضافة إلى الأحداث السياسية البارزة مثل تشييع الشهيد عبد القادر الحسيني ومجزرة دير ياسين.

وعمل لاحقا في القسم الإعلامي لحكومة الاحتلال البريطاني، مما أتاح له تغطية واسعة للأحداث. فقد معظم أرشيفه في حرب 1967، ولم يتبقَ سوى 500 صورة من أصل نحو 4500، وقد نُشر جزء منها في كتاب صدر عام 1999.

التحولات بعد عام 1948

بعد نكبة عام 1948، شهدت سوق التصوير الفوتوغرافي في القدس تحولات جذرية، إذ فقد المصورون العرب والأرمن القدرة على الوصول إلى أستوديوهاتهم ومواقع عملهم، نتيجة التقسيم الجغرافي الجديد وسيطرة الاحتلال الإسرائيلي على الجزء الغربي من المدينة.

وتحوّلت المنطقة التي كانت تُعرف سابقا بـ"سوق التصوير" إلى منطقة حدودية عسكرية، مما أدى إلى تراجع كبير في نشاط المصورين الفلسطينيين في شرقي القدس، في مقابل استمرار المصورين الإسرائيليين في العمل بحرية نسبية في القسم الغربي.

القدس –بائع شراب السوس داخل ساحة باب الخليل في ثلاثينيات القرن الماضي. تصوير :
بائع شراب السوس في محيط باب الخليل بالقدس (إيليا فوتو أستوديو)

هذا الواقع الجديد منح المؤسسات الفوتوغرافية الإسرائيلية هيمنة شبه كاملة على المشهد، وأدى إلى تآكل تدريجي للموروث البصري الفلسطيني.

تعرضت أستوديوهات التصوير الفلسطينية في القدس للنهب والتدمير على يد قوات الاحتلال، ومن أبرز الشخصيات التي عاصرت هذه المرحلة المصور خليل رصاص، الذي وثّق أحداث النكبة ورافق قادة المقاومة الفلسطينية في معاركهم. وقد صودر أرشيفه بعد وفاته عام 1974 ونُقل إلى أرشيف جيش الاحتلال، ولا تزال صوره محتجزة حتى اليوم.

ورغم الظروف القاسية، استطاع بعض المصورين الفلسطينيين والأرمن مواصلة العمل أو إعادة تأسيس أستوديوهاتهم في أحياء جديدة داخل المدينة. من بين هذه الأستوديوهات برز "فوتو رصاص"، الذي أنشأه إبراهيم رصاص في فترة الاحتلال البريطاني، وواصل ابنه خليل تطويره بعد عام 1948. وتنقل الأستوديو بين عدة مواقع، أبرزها حي مأمن الله، ثم باب العامود، وأخيرا شارع الزهراء في شرقي القدس، والذي أصبح لاحقا من مراكز النشاط الثقافي الفلسطيني.

كما استأنف المصور الأرمني إيليا قهوجيان عمله من خلال أستوديو "إيليا فوتو"، بعد تدمير موقعه القديم أثناء النكبة. وفي عام 1949، افتتح مقره الجديد في عقبة الخانقاة داخل البلدة القديمة، محافظا على أرشيف نادر من الصور التاريخية يعود إلى عام 1860، ويُعد اليوم من أقدم المجموعات البصرية الموثقة لحياة القدس.

ومن الأستوديوهات المهمة أيضا أستوديو "غارو"، الذي أسسته عائلة أرمنية في حي الأرمن، واستمرت في العمل بعد عام 1948، محافظة على دورها في توثيق ملامح المدينة المتغيرة، من معمار وأسواق إلى وجوه الفلسطينيين المتجذّرين في المكان.

انتشرت هذه الأستوديوهات في مناطق شرقي القدس، خاصة في شارع الزهراء وشارع نابلس وباب العامود، والتي تحوّلت إلى مراكز ثقافية وتجارية نشطة، عكست استمرارية الحياة الفلسطينية رغم التهجير والاحتلال.

0 تعليق