مشاهد من غزة بعد قرابة شهر من إعلان وقف الحرب - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي

share2

غزة- لم تنته الحرب على غزة، بل أخذت شكلًا آخر، تحوّلت فيه من جبهة نارية عتادها الصواريخ والقذائف، إلى معارك يومية يخوضها الغزيون لاجتثاث فتات حياة كريمة تشبه تلك التي كانوا يتنعمون بها قبل الحرب.

هدوء ما بعد الإعصار، ووجوم على وجوه أناسٍ يحاولون أن يجربوا حياة جديدة هدأ فيها الموت قليلا، تاركا وراءه مدينة تستعيد أنفاسها على مهل، وتنبش رمادها بحثا عن ملامح الحياة.

عاد الغزيون إلى مناطقهم المدمرة رغم أن لا شيء ينتظرهم سوى الركام، يجمعون خساراتهم ويبحثون عن أمتار يملكونها كي يبدؤوا عليها حياتهم، تتقد إرادتهم ويحاولون ضخ الحياة إلى ما تبقى من بيوتهم، ليتمكنوا لاحقا من إعادة أسرهم إليها.

قرار العودة

عودة إلى خراب بلا كهرباء وماء وأسواق أو مشاف أو مدارس أو خدمات، لكنها بالنسبة إليهم القرار الأوضح منذ انتهاء الحرب، "أن يعودوا مهما كان الثمن".

تجولت الجزيرة نت، في المناطق الأكثر دمارا شمال مدينة غزة وشرقها، حيث يعود الغزيون بلا أي شيء إلى لا شيء، ففي حي الشجاعية شرق المدينة، نصبت عشرات الأسر خيامها في منتزه الحي بين الركام، في محاولة لبقائهم قرب منازلهم المدمرة.

من هؤلاء، كان أبو صلاح الذي عاد وحده مع ابنه البكر كرجال كثيرين حوله، اختاروا أن يعودوا لترميم ما يمكن إصلاحه وتهيئته لاستقبال أسرهم لاحقا، ويقول للجزيرة نت، "التحق أبنائي بمراكز تعليمية في وسط القطاع، تركتهم هناك وأتيت لاستصلاح غرفة من المنزل لأعيدهم إليها حين أنتهي، أعادني الحنين إلى الحي، لكل زاوية تربّيت فيها، لا أطيق البعد عنه أكثر".

محاولات لاستصلاح الغزيين أجزاء من بيوتهم في المناطق الشمالية والشرقية لمدينة غزة
غزيون يحاولون ترميم أجزاء من بيوتهم المدمرة في المناطق الشمالية والشرقية لمدينة غزة (الجزيرة)

للأمام قليلا، قرب الخط الأصفر الذي يحظر الاحتلال الاقتراب منه، يوجد عدد من الأسر رغم أن الحياة تسير على إيقاع يشبه الحرب. فعلى بعد أمتار منهم فوق تلة المنطار، تلوح مواقع عسكرية إسرائيلية ورافعات وقناصة، وتستمر أصوات تفجير الروبوتات الليلية في مخطط لنسف كل ما وراءه، ما يجعل المكان أشبه بساحة حرب مستمرة.

إعلان

سألت الجزيرة نت، أحد العائدين عن السبب الذي دفعه للعودة قريبا من الموت، فقال "شعوري بالراحة يدفعني لتحمل ضريبة وجودي فيها"، غير أن الخطر المحدق به يجعله مترددا في إعادة أسرته، فلا تصل هذه المناطق أيّ إمدادات نظرا لخطورة الوضع الأمني فيها.

المواطن أبو عبد الله شاهين يعود مسرعًا إلى منزله شمال القطاع لتفقد بستانه الذي لم يجد منه إلا شجرة واحدة وجذوعًا عارية
أبو عبد الله شاهين يعود إلى منزله شمال غزة لتفقد بستانه فلم يجد منه إلا شجرة واحدة (الجزيرة)

مشاعر مختلطة

أما شمال القطاع، وفي طريق مليء بالركام، كانت نور (17 عاما) تمشي وحيدة نحو جباليا النزلة، تسبق أهلها إلى بيتهم. تحمل كيسا من الخبز وحقيبة مليئة بالكتب، فقد كان من المفترض أن تكون هذا العام في الثانوية العامة، قبل أن تشل الحرب كل شيء، تقول للجزيرة نت، "وأخيرا سأعود لدارنا، تخيلي أن تكوني مع 10 أفراد في خيمة، والآن ستعودين لبقايا غرفتك ولدراستك، هذا شعور لا يمكنني وصفه".

وعلى بعد أميال قليلة، وصل أبو عبد الله شاهين إلى بيته في الحي ذاته بعد نزوح استمر شهرين جنوبا، كان بستانه في فناء منزله المهدّم أول ما هرول إليه، حيث لم يبقَ منه سوى شجرة ليمون واحدة وجذوع عارية ورائحة تشبه ذاكرته.

يحكي للجزيرة نت، متحسرا "كنت أكتفي بما زرعته هنا، لم أكن أحتاج للشراء من السوق، الآن لم يتبقّ لي سوى هذه الجذوع". يغسل شجرة الليمون من غبار الرماد ويضيف بحزم "هذه الشجرة عمرها أكبر من دولتهم، وهي التي تبقيني مؤمنا بأن الأرض لا تموت".

مواطن معين الحتو يرمم جزء من منزله الذي يتواجد فيه صاروخ لم ينفجر، ويعيش فيه مع عائلته لانعدام وجود البدائل لديه.
معين الحتو يرمم جزءا من منزله الموجود فيه صاروخ لم ينفجر (الجزيرة)

أما معين الحتو فقد اكتشف عند وصوله إلى بيته أن صاروخا لم ينفجر كان قد اخترق جداره الأرضي، ليصبح الدمار والخطر الواقعان أمامه أول ما يواجهه عند العودة، ويضطر رغم ذلك لترميم جزء منه، محاولا أن يتهيأ للعيش فيه قبل حلول الشتاء، لكنه عاجز عن إزالة القنبلة ولا توجد أي جهة مختصة لتفكيكها. ويعبّر للجزيرة نت، عن خوفه "تخيلي أن تنامي مع قنبلة يمكن أن تنفجر في أيّ لحظة، إنه صاروخ ضخم يمكن أن يودي بحي كامل".

وللسبب ذاته، قررت أم محمود، وهي زوجة شهيد ترك لها ستة أطفال، الاستقرار في مدرسة عمواس في حي الصفطاوي، بحثتْ عن حائط واحد في منزلها المدمّر فلم تجد، فقررت أن تسكن في أقرب مدرسة إليه، واختارت فصلا منها ملاذا لها، أغلقت نوافذه بأكياس النايلون وثقوب جدرانه بشوادر القماش، وهي تراه أفضل من العيش بخيمة عانت فيها موسمين سابقين من الشتاء.

تمشي حافية القدمين في فناء المدرسة، تكشف عن تشققات قدميها، وتقول "حربي الآن بدأت، كل يوم معركة، بين حمل الماء والحطب ومحاولات عبثية لانتزاع حياة كان أطفالي يعيشونها مرفهين حين كان والدهم حيّا".

المواطن عيد سعد الله يصلح شباك صيده التي انتشلها من تحت الأنقاض في محاولة منه لترميم مهنته التي يعمل بها منذ 75 عاماً
عيد سعد الله يصلح شباك صيده التي أخرجها من تحت الأنقاض (الجزيرة)

خسارة كبيرة

أما في ساحة المدرسة، فيفترش عيد سعد الله الأرض هو وشباك صيده الممزقة أمامه، ويحاول أن يخيطها بخيوط مهترئة، كما لو كان يُصلح جزءا من روحه. اقتربت منه الجزيرة نت، فروى قصته مع الشبكة التي انتشلها من تحت أنقاض منزله المدمر، وهي الشيء الوحيد الذي نجا من مصدر رزقه القديم.

فقد خسر قاربه ومعداته واثنين من أبنائه خلال الحرب، وبقيت له هذه الشباك مما تبقّى من المهنة التي ورثها عن آبائه منذ أكثر من 75 عاما، ويقول "لم يتبقّ لي شيء، لكني مضطر لترميم مهنتي والعودة للصيد، لأنني لو لم أفعل ذلك فسأموت جوعا".

إعلان

لم تفتح نهاية الحرب على الغزيين كنوزا ومناجم، فهم يحاولون استصلاح ما تبقّى من مصادر رزقهم التي أبادتها الحرب، ورغم أن أسواق القطاع تعرض أخيرا بعض الأصناف الكمالية إلا أن كثيرا من الأصناف الأساسية لا يزال مفقودا، عدا عن أن ما يتوافر فيها ليس بمتناول الغزيين الذين ليس لديهم مصادر دخل أو لا يتمكنون من سحب أموالهم نقدا من البنوك إلا بعمولة كبيرة، وهي مشاكل لم تحل رغم وقف إطلاق النار.

مدرسة عمواس في حي الصفطاوي شمال القطاع يعود إليها المواطنون رغم خلوها من كل المقومات المعيشية حيث يرونها خيارًا أفضل مع اقتراب موسم الشتاء
مدرسة عمواس بحي الصفطاوي شمال القطاع يعود إليها المواطنون رغم خلوها من كل مقومات الحياة (الجزيرة)

ويقول غسان إياد وهو صاحب محل مجمدات "الحرب انتهت على الورق، لكن الجيوب لا تزال فارغة، والناس ينظرون إلى الأطعمة كأنها معروضة في متحف، فكيلو الدجاج يصل إلى 20 دولارا وهو مبلغ لا يملكه كثير من الغزيين".

تدّعي الحرب الرحيل، لكنها لا تزال قائمة رغم الاتفاق، لكن لسان حال الغزيين وهم منغمسون في صراع البقاء اليومي، "إن لم تكن هذه حربا، فما الحرب؟".

0 تعليق