واجه الاتحاد الأوروبي سلسلة من الأزمات، خلال الأشهر الماضية، تمكّن من اجتيازها بصعوبة، ولكن التحديات المقبلة تبدو أكثر تعقيدا وتشابكا.
ففي ظل حرب مستمرة في أوكرانيا، وتنامي التهديدات الروسية، وتحوّل الولايات المتحدة تحت قيادة دونالد ترامب إلى قوة تحرف تقاليدها الدبلوماسية، تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى إعادة تعريف دورها الأمني والسياسي داخل النظام الدولي.
اقرأ أيضا
list of 2 items list 1 of 2كل ما عليك معرفته عن المواجهة بين أفغانستان وباكستان list 2 of 2لماذا يتميّز موقف إسبانيا في دعم فلسطين؟ end of listوفي تقرير نشرته مجموعة الأزمات الدولية، حذّرت رئيسة المجموعة كومفورت إيرو، من أن السنوات المقبلة قد تكون الأصعب على الاتحاد منذ عقود، إذ عليه موازنة متطلبات الأمن الجماعي مع مخاطر الانقسام الداخلي وتراجع الثقة بالضامن التقليدي؛ الولايات المتحدة الأميركية.
أوروبا بين موسكو وواشنطن
منذ مطلع عام 2025، يعيش الاتحاد الأوروبي حالة من "الاختبار السياسي" المستمر في ظل توازن هش بين موسكو وواشنطن؛ فالأوروبيون يجدون أنفسهم أمام معضلة مزدوجة:
الحاجة إلى ردع روسيا دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة. الحفاظ على وحدة حلف شمال الأطلسي (الناتو).وتواصل روسيا اختبار صبر الحلفاء الأوروبيين بتكثيف هجماتها السيبرانية والتوغلات الجوية، كما حدث في سبتمبر/أيلول الماضي عندما دخلت طائرات "ميغ-31" الأجواء الإستونية، وأرسلت موسكو سربا من طائرات مسيّرة نحو بولندا. وبينما تنفي روسيا هذه الاتهامات، يرى الأوروبيون فيها جزءًا من إستراتيجية ضغط تهدف إلى تقويض دعمهم كييف.
ومن جهة أخرى، تتراجع الولايات المتحدة عن دورها التقليدي كضامن رئيسي لأمن القارة الأوروبية؛ ففي وقت تتزايد فيه الشكوك في انسحاب واشنطن من الناتو، أكد ترامب أن بلاده لم تنسحب من الحلف، إلا أن تصريحاته المتكررة التي توحي بأن الولايات المتحدة "خارج" الناتو تثير قلق العواصم الأوروبية وتضعف الثقة في استمرارية الوضع القائم.
في المقابل، تحاول أوروبا أن توازن بين الحفاظ على الردع في وجه روسيا وتجنّب التصعيد العسكري الذي قد يجرّ القارة إلى مواجهة أوسع. كما تسعى لإدارة العلاقة المعقدة مع إدارة ترامب التي تتبنى نهجا براغماتيا ضاغطا، يقوم على الصفقات أكثر من المبادئ، ما يضع الاتحاد في معادلة دقيقة بين الحذر والتعاون.
إعلان
احتواء الأزمات: 3 جبهات مترابطة
من أبرز الملفات التي تواجه القادة الأوروبيين اليوم 3 جبهات مترابطة تشكّل جوهر التحدي الحالي:
1- الحرب في أوكرانيا
نجحت الجهود الدبلوماسية الأوروبية في إعادة تأهيل العلاقة بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وإدارة ترامب، بعد التوتر الذي أعقب لقائهما في المكتب البيضاوي في فبراير/شباط 2025.
وقد تمكن قادة مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، من تثبيت فكرة لدى واشنطن مفادها، أن أي اتفاق مستدام مع الكرملين لا يمكن أن يتم على حساب كييف أو أوروبا.
كما أسهمت أوروبا في الحفاظ على تدفق السلاح والمعلومات الاستخبارية إلى أوكرانيا، رغم قرار واشنطن بعدم تمويل شحنات الأسلحة مستقبلا وترك التكلفة على عاتق الحلفاء. ويعكس ذلك رغبة أوروبية في إثبات قدرتها على إدارة أمنها بنفسها، حتى وإن ظلّت تعتمد جزئيا على المظلة الأميركية.
2- العلاقة بالولايات المتحدة
أما على صعيد العلاقة بواشنطن، فقد تجنّب الاتحاد الأوروبي، حتى الآن، أي تصدعات كبرى في التحالف عبر الأطلسي. وبفضل قادة يتمتعون بعلاقات جيدة مع ترامب، مثل الرئيس الفنلندي ألكسندر ستوب ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني، تمكن الحلفاء من تمرير رفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي بحلول 2035، دون اعتراض أميركي علني.
لكن تنفيذ هذه الالتزامات سيظل صعبا، إذ سيتطلب موازنة حساسة بين الدفاع والإنفاق الاجتماعي، خاصة في دول جنوب أوروبا، ما يهدد بزيادة الانقسام السياسي رغم أن الخطوة منحت الناتو وقتا إضافيا لتقليل اعتماده على الولايات المتحدة.
3- الرسوم الجمركية والتجارة
توصلت بروكسل وواشنطن إلى اتفاق مؤقت بشأن الرسوم الجمركية والتجارة، قد لا يصمد طويلا، ولكنه ساهم في استقرار التجارة مؤقتا.
وقد فرضت إدارة ترامب ما سمّته "رسوم يوم التحرير"، مما أدخل الطرفان في مفاوضات صعبة انتهت باتفاق مؤقت فرض الاتحاد بموجبه تعرفة أساسية بنسبة 15%.
ورغم الانتقادات داخل أوروبا لعدم تكافؤ الشروط، يرى القادة أن الاتفاق أفضل من خوض حرب تجارية شاملة في وقتٍ تشهد فيه الحدود الشرقية توترات أمنية خطرة.
حرب استنزاف طويلة
وأكد تقرير مجموعة الأزمات أن أوروبا تتهيأ لخوض حرب استنزاف طويلة الأمد في أوكرانيا، مدركة أن المعركة لن تُحسم عسكريا بل بصبر إستراتيجي طويل الأمد، وإقناع موسكو بأن الدعم الأوروبي مستمر وسيُترجم إلى قواعد أمنية تحمي استقلال أوكرانيا.
لكنّ تكلفة هذا الالتزام مرتفعة، خصوصا مع فتور الدعم الأميركي. وقد بدأت تظهر في بعض الدول الأوروبية ضغوط داخلية متنامية، تخص ارتفاع أسعار الطاقة وتزايد الأعباء المالية، الأمر الذي يهدد بتآكل الإجماع الأوروبي في الملف الأوكراني.
من الخيارات التي تُبحث لتخفيف العبء المالي، اقترح بعض القادة استخدام الأصول الروسية المجمّدة كضمان أو لتمويل جهود إعادة الإعمار، لكن هذه الفكرة تواجه مخاطر قانونية ودبلوماسية مهمة، إذ تعتبر موسكو أي استعمال لأصولها سرقة.
العالم يتغير.. وأوروبا أمام اختبار القيادة
وخلص التقرير إلى أن تحديات الاتحاد الأوروبي لا تقتصر على محيطه القريب؛ فإلى جانب الأزمة الأوكرانية، تواجه بروكسل ملفات أخرى تمس مصالحها الأمنية والاقتصادية، ومنها:
إعلان
توتر العلاقات بين الصين وتايوان. تصاعد النزاع في اليمن والبحر الأحمر. تفاقم هشاشة الوضع في الصومال. التوترات السياسية في كوسوفو. الضغوط الأميركية على المكسيك لإصلاح قطاعها الأمني.ورغم أن الاتحاد ليس اللاعب الوحيد في هذه الملفات، فإن استثمار قدر من رأس المال السياسي والموارد الأوروبية يمكن أن يحد من تفاقمها.
ففي عالم تتراجع فيه ركائز السلام والأمن الدوليين التقليدية، تظل قدرة أوروبا على دعم الحلول السلمية وبناء القدرة على الصمود في المناطق المتأثرة بالنزاعات عنصرا حاسما في الحفاظ على دورها كقوة توازن واستقرار في النظام الدولي.

0 تعليق