بسام عبد السميع يكتب : وحي الطمأنينة - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الاثنين 27 أكتوبر 2025 | 09:56 مساءً

بسام عبد السميع

بسام عبد السميع

بسام عبد السميع

“لا تخافي ولا تحزني”.. جملةٌ واحدة تختصر الوحي بين طرفيها: الخوف والسكينة. بين أمٍّ تضع طفلها في تابوت وتجعل البحر مهدًا، وأخرى تهزّ جذع نخلة لتستقبل معجزة يولد معها السلام رغم الألم والوحدة.

في تاريخ النبوات قصصٌ عديدة عن الوحي، لكن قليلًا منها يخرج من إطار التكليف والبلاغ ليصبح نداءً خالصًا للرحمة. وفي قلب القرآن تلمع لحظتان فريدتان: وحيٌ إلى أم موسى في لحظة فزع، ووحيٌ إلى مريم في لحظة دهشة وانفراد.

مشهدان يفصل بينهما الزمن، ويوحّدهما أن الوحي هنا وحي طمأنينة لا وحي تشريع.

الله يقول لأم موسى: ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾

أيُّ عقلٍ يقبل ذلك؟ لكن القلب إذا خاطبه الله يفعل ما يعجز عنه المنطق. لم يقل: “سأنقذه”، بل قال: “ولا تخافي ولا تحزني”. إنه التوكل حين يصير فعلًا.

ومع مريم، كان النداء: ﴿أَلَّا تَحْزَنِي… وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾

لم يطلب منها مواجهة أحد، بل فعلاً رمزيًا أمام معجزةٍ كبرى: افعلي ما تستطيعين… وسيتكفّل الله بالباقي.

في قصة مريم يتجلّى الوحي بوصفه قدرةً خالصة، أمرًا يرفع الوجود من العدم بكلمة. يولد عيسى بلا أب ليكون ذاته آية: كلمة الله.

ذاك هو فيض الخلق؛ حين يصير العجز البشري مسرحًا للقدرة المطلقة.

أما موسى، فالعظمة في قربه من الوحي ذاته؛ سيكبر ليكون كليم الله.

الخطاب الإلهي هنا لا يطمئن قلبًا فقط، بل يعدّ قلبًا سيقود أمّة، ويواجه الطغيان. ذلك هو شرف التكليف؛ حين تتحوّل السكينة إلى رسالة، والوحي إلى تاريخ.

ومهما اختلفت التفصيلات، فإنّ التشابه بينهما يتكرّر على مستوى الرسالة والوجهة؛ فكلٌّ منهما أُرسل إلى بني إسرائيل، رسالة تتلو رسالة، ونورٌ يتبع نورًا.

الأولى حرّرت الجسد من قيد الاستضعاف، والثانية حرّرت الروح من قيد الانحراف. وكأنّ القدَر يربط بين القصتين بخيطٍ واحد: الوحي حين يزدهر في أمّة… لا ينقطع حتى تكتمل الهداية.

في القصتين يغيب الأب. لكنّ الغياب لم يكن نقصًا، بل مساحةً لحضور القدرة الإلهية.

في قصة موسى، الأب في الظلّ لتبقى البطولة لوحي الطمأنينة. وفي قصة عيسى، لا أب أصلًا… فيظهر الراعي والمعين والمسدِّد بلا شريك.

حين تغيب الأسباب… يظهر المسبّب في أجمل تجلٍّ.

الوحي هنا ليس شرائع تُحمَل، بل سكينة تُسكب.

فأمّ موسى ومريم ليستا نبيّتين، لكن الله خاطبهما لأنّ الإيمان الصادق قد بلغ في قلبيهما مقام النبوّة دون لقبها.

وحي الرسالة يحتاج نبيًا… أمّا وحي السكينة فيكفيه قلبٌ مؤمنٌ خائف.

من النيل إلى بيت لحم، من تابوتٍ يطفو إلى جذع نخلةٍ يثمر… كانت السماء تهمس بالعبارة نفسها: “لا تخافي… ولا تحزني”.

في اليمّ، وُلد موسى وفي قلب أمّه يقين. وتحت النخلة، وُلد عيسى وفي قلب مريم سلام.

كلاهما ثمرة وحيٍ نزل ليعلّم الإنسان: أنّ الطمأنينة نفسها وحي، وأنّ الله إذا تولّى عبدًا… فلا خوفٌ عليه ولا حزن.

لم يكن جمع موسى وعيسى عليهما السلام في قصّتين متقابلتين مصادفةً، فهاتان الرسالتان توجّهتا للأمّة نفسها: بني إسرائيل. الأولى جاءت لتُحرّر الجسد من أسر الطغيان، والثانية لتُحرّر الروح من أسر التحريف. مشوارٌ واحد تتناوب فيه يد القدرة الإلهية بين العصا وكلمة “كن”. فالتشابه بينهما ليس في الحكاية فقط، بل في الغاية: هدايةُ القوم أنفسهم بوحيٍ متتابعٍ من ربٍّ واحد.

وكما كان موسى كليمَ الله يتلقّى الخطاب مباشرة، كان عيسى كلمةَ الله يظهر للوجود بأمرٍ مباشر؛ فكلاهما قريبان من الوحي قربَ الشيء من أصله، أحدهما تشرّف بسماع الكلمة، والآخر تشرّف بأن يكون الكلمة.

بسام عبد السميع
الكاتب الصحفي بسام عبد السميع

0 تعليق