فلسفة الذكاء الاصطناعي.. الوعي بين الفكرة والآلة - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لا يأتي كتاب "الفلسفة في الذكاء الاصطناعي.. من التنظير إلى الممارسة الإبستيمولوجية" للدكتور إبراهيم كراش بوصفه إضافة إلى مكتبة فلسفة التكنولوجيا فحسب، بل بوصفه أيضا قراءة نقدية معمقة لمسار معرفي يربط بين الفكر والعقلانية والآلة.

فالذكاء الاصطناعي -كما يراه المؤلف- ليس مشروعا علميا منفصلا عن الفلسفة، إنما هو استئناف لسؤال الوعي في صورته الأكثر جرأة: هل يمكن إعادة إنتاج العقل؟ وهل يمكن للآلة أن تفكر بطريقة تتجاوز المحاكاة؟

وقد صدر الكتاب حديثا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في 257 صفحة متضمنا ملخصا تنفيذيا ومقدمة و4 فصول وخاتمة تحليلية، لكن قيمة هذا العمل لا تكمن في ترتيبه البنيوي بقدر ما تكمن في المنهج الذي يتبناه.

وينطلق كراش من فرضية أن الذكاء الاصطناعي هو "لوغوس" جديد -أي خطابا عقلانيا مغايرا -يحاول من خلال التقنية أن يعيد تعريف المعرفة ذاتها، وأن يختبر حدود المفهوم الإنساني للعقل والإدراك.

فلسفة في الذكاء الاصطناعي - إبراهيم كراش
غلاف الكتاب (الجزيرة)

من الحلم الأسطوري إلى المشروع العلمي

يبدأ المؤلف رحلته بتتبّع الجذور الفكرية للذكاء الاصطناعي في تاريخ أقدم بكثير من الثورة الرقمية، فمنذ القرون الوسطى حاول الإنسان تحويل الفكر إلى آلة رمزية كما فعل ريموند لول بآلته الجدلية، أو بليز باسكال بآلته الحاسبة، وصولا إلى ديكارت الذي أنكر إمكانية أن تمتلك الآلة لغة ووعيا.

وبين هذين الموقفين تشكّل أول تمايز بين الأسطورة والعقل، فالإنسان الذي حلم بصناعة كائن شبيه به لم يتوقف يوما عن محاولة ترميز هذا الحلم في صيغ رياضية ومنطقية.

ويرى كراش أن تلك المحاولات المبكرة تمثل أصل الفلسفة الميكانيكية للفكر هي التي مهدت لاحقا لتأسيس علم الحوسبة في القرن الـ20.

ومع ظهور آلة تورينغ أصبحت مسألة "محاكاة الذكاء" مشروعا علميا قائما بذاته يسعى إلى نقل صفات التفكير البشري إلى بنى خوارزمية، لكن الكاتب يذكّر بأن هذه المسافة بين التفكير البشري والذكاء المصطنع لا تزال قائمة، لأن الفهم لا الأداء هو جوهر المسألة.

إعلان

ويخصص كراش مساحة واسعة لتحليل ما يسميه الإشكال الإبستيمولوجي للذكاء: ما الذي نعنيه حين نصف كائنا بأنه "ذكي"؟ وهل يمكن لذكاء بلا وعي أن يُعد فهما؟

تتعدد -كما يرى المؤلف- الإجابات بقدر تنوع الحقول التي تدرس الظاهرة، فالمبرمجون يربطونه بقدرة الخوارزميات على حل المشكلات، وعلماء الأعصاب يرونه عرفا بيولوجيا للدماغ، في حين ينظر إليه الفلاسفة إليه متسائلين عن طبيعة الفهم ذاته.

وهكذا، يتشكل الذكاء الاصطناعي على هيئة حقل متشظ معرفيا أكثر منه علما متجانسا، وهو تشظ يراه المؤلف مصدر غنى أكثر مما هو ضعف، لأنه يتيح للفلسفة أن تستعيد موقعها النقدي، فتسائل الأسس التي يقوم عليها "التمثيل" و"المعنى" و"القصد".

بين التمثيل والوظيفة.. صراع المفاهيم

يناقش الكتاب بإسهاب تقاليد فلسفية شكلت الخلفية النظرية للذكاء الاصطناعي، فمن جهة يقف التقليد التمثّلي الذي يرى أن الفكر بنية رمزية يمكن تمثيلها وتفكيكها وبالتالي إعادة بنائها برمجيا.

ومن جهة أخرى، تتقدم النزعة الوظيفية التي تفصل بين طبيعة العمليات العقلية ومادتها العضوية، فالعقل -وفق هذا المنظور- مجموعة من الوظائف التي يمكن للآلة أداؤها إذا أعيدت برمجتها بما يحاكي السلوك البشري ويناظره.

لكن كراش يتعامل مع هذين التيارين من موقع الناقد لا المفسر، فيشير إلى أن كليهما يتجاهلان البعد الوجداني للوعي، وأن تحويل الفكر إلى رموز أو إلى وظائف قابلة للترميز يعني فقدان جزء جوهري من التجربة الإنسانية التي تصنع المعنى.

ومن هنا تتبلور أطروحة المؤلف المركزية أن الفهم ليس عملية حسابية، بل علاقة حية بين الذات والعالم، وأن أي مشروع لتقليد الذكاء دون تجسد في سياق حسي يظل ناقصا مهما بلغت دقة النماذج الرياضية.

النقد الفلسفي وحدود الآلة

في القسم النقدي من الكتاب يعرض كراش حجج فيلسوفين تركا أثرا عميقا في النقاش الفلسفي بشأن الذكاء الاصطناعي وهما هوبرت دريفوس وجون سيرل.

هذان الفيلسوفان يريان أن الذكاء الإنساني يتأسس على "الوجود في العالم"، أي على خبرة جسدية وسياقية لا يمكن ترميزها، لذلك فالآلة مهما بدت قادرة على معالجة الرموز لا تفهم معانيها.

يتعامل كراش مع هذين الموقفين بوصفهما حدين معرفيين لا يمكن تجاهلهما، فهما لا ينفيان إمكانية التقدم التقني، بل يحددان الأفق الذي يمكن فيه فهم "الفكر الآلي" محاكاة للقدرة لا تماثلا في الجوهر.

وفي قراءته لهما يوازن المؤلف بين الإقرار بمحدودية الذكاء الاصطناعي وبين الإصرار على قيمته الإبستيمولوجية، إذ إن محاولة تقليد العقل نفسها تكشف ما لا نعرفه بعد عن طبيعة العقل.

من اللوغوس إلى إعادة بناء العقلانية

أحد أكثر جوانب الكتاب فرادة هو تناوله مسألة اللوغوس باعتبارها البنية الفكرية التي توجه مشروع الذكاء الاصطناعي، فاللوغوس عند كراش ليس مجرد منطق لغوي أو نظام رموز، بل هو روح عقلانية جديدة تعيد تعريف معنى المعرفة في زمن الحوسبة.

ويرى المؤلف أن الإنسان المعاصر في سعيه لتحويل العقل إلى كود يعيد إنتاج أسئلة الفلاسفة الأوائل عن حدود العقل والمعرفة.

وبهذا المعنى، فإن الذكاء الاصطناعي ليس انقطاعا عن التاريخ الفلسفي، بل امتداد لمسار طويل يبدأ بالأسطورة وينتهي بالبرمجة.

إعلان

لقد تحول الحلم القديم في صناعة كائن عاقل إلى محاولة رياضية لتشييد خطاب بديل عن الأسطورة، لكن أثر الأسطورة لم يختف تماما، بل تسرب إلى الخطاب العلمي نفسه، فبقيت الرغبة في "صنع شبيه الإنسان" حافزا خلف التقدم التقني.

الفلسفة والآلة.. تماه لا تقاطع

وختاما، فإن كراش يقدم أطروحة دقيقة وخطيرة في آن وهي أن العلاقة بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي ليست علاقة خارجية، بل تماه في سؤال الوعي ذاته.

فالذكاء الاصطناعي لا يستعير من الفلسفة أدواتها ليفكر بها، بل هو نفسه ممارسة فلسفية بوسائل رقمية، إنه حقل يعيد إلينا صورة العقل من الخارج، ويجبرنا على مساءلة ما كنا نظنه بديهيا في إدراكنا لأنفسنا.

وبهذا المعنى لا ينظر المؤلف إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه تقنية للتفكير، بل "مرآة معرفية" تعكس حدود الفكر الإنساني، وتفتح الفلسفة على ممارسة جديدة تتقاطع فيها الرموز والمعاني والآلة والذات.

الذكاء الإصطناعي يحد من القدرة على تفسير أسباب التنبؤ، مما يحول دون توظيفه في النصائح التي يتم تقديمها للمزارعين
الكتاب يوازن بين الدقة المفهومية واللغة الشارحة المجردة (بيز فور إنتيليا)

قيمة الكتاب وموقعه

يمثل هذا العمل إضافة مهمة إلى المكتبة العربية في ميدان فلسفة الذكاء الاصطناعي، فهو لا يكتفي بنقل النقاش الغربي إلى القارئ العربي، بل يعيد صياغته ضمن رؤية إبستيمولوجية متجذرة في تقاليد التفكير النقدي.

ويظهر في أسلوب كراش التوازن بين الدقة المفهومية واللغة الشارحة المجردة، إذ يكتب بوعي فلسفي لا يتخلى عن صرامة التحليل، ويمنح قارئه أدوات لفهم الأسئلة الكبرى التي تطرحها الثورة التقنية.

إن الذكاء الاصطناعي -كما يراه المؤلف- ليس مجرد برنامج أو خوارزمية، بل هو مشروع أنطولوجي يعيدنا إلى سؤال الوجود الإنساني نفسه: من نحن حين نصنع عقلا غيرنا؟ وما الذي يتبقى من الإنسان حين تصبح أفكاره قابلة للبرمجة؟

وبهذا، فالكتاب دعوة إلى مواصلة التفكير في المجهول الذي نسميه "العقل"، وهو لا يقدم تصورا نهائيا ولا يفضي إلى إجابات كاملة بقدر ما يفتح أفقا فلسفيا يتجاوز الانبهار بالتقنية نحو وعي نقدي بها يجعل من الذكاء الاصطناعي مناسبة لتجديد الفلسفة ذاتها.

0 تعليق