كشف تحليل دقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عن أدلة مقلقة تشير إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يفرض سيطرته على مناطق داخل قطاع غزة تفوق بشكل ملموس ما تم الاتفاق عليه ضمن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار الأخير.
وباستخدام صور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو الموثقة، أظهر التحليل أن العلامات المادية التي وضعها جيش الاحتلال لتحديد "الخط الأصفر" الانسحابي، تم نصبها في عمق أكبر داخل القطاع بمئات الأمتار مقارنة بالخرائط الرسمية، مما يثير تساؤلات جدية حول التزام الاحتلال ببنود الاتفاق الهش.
"الخط الأصفر": تناقض بين الخرائط والواقع
بموجب اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 10 أكتوبر/تشرين الأول، كان من المفترض أن تنسحب قوات الاحتلال إلى خط حدودي محدد (تم تمييزه بالأصفر في الخرائط العسكرية الإسرائيلية) يمتد على طول شمال وجنوب وشرق القطاع.
لكن تحليل "بي بي سي" كشف تناقضا صارخا بين الخرائط المعلنة والواقع على الأرض:
شمال غزة (حي العطاطرة): أظهرت لقطات جوية أن ست كتل إسمنتية صفراء وضعت على بعد يصل إلى 520 مترا داخل غزة، وهو عمق أكبر بكثير مما أشارت إليه خريطة جيش الاحتلال المنشورة في 14 أكتوبر.
جنوب غزة (قرب خانيونس): أظهرت صور أقمار صناعية التقطت في 19 أكتوبر وجود عشرة مجسمات مشابهة، وضعت على مسافة تتراوح بين 180 و 290 مترا داخل الحدود المفترضة التي حددتها خرائط الجيش.
ووفقا لتقدير "بي بي سي"، إذا كانت هذه الحالات نموذجية لما يجري على طول "الخط الأصفر"، فإن "إسرائيل" تفرض سيطرة فعلية على مساحة أكبر بكثير مما نص عليه الاتفاق.
رد الاحتلال: "حدود تكتيكية" وتحذير بإطلاق النار
رفض جيش الاحتلال التعليق المباشر على نتائج تحليل "بي بي سي"، مكتفيا بالقول إن قواته "بدأت بوضع الخط الأصفر داخل غزة لتوضيح الحدود التكتيكية على الأرض".
لكن وزير الحرب، يسرائيل كاتس، الذي أصدر تعليماته بوضع الكتل الصفراء، كان أكثر وضوحا في تحذيراته، حيث أكد في منشور على منصة "إكس" أن الكتل الصفراء تمثل الخط الفعلي، وأن "أي محاولة لعبور الخط ستقابل بإطلاق النار" دون سابق إنذار.
خبراء: "منطقة عازلة" و"منطقة قتل"
يرى محللون تحدثوا إلى "بي بي سي" أن الهدف من وضع العلامات في عمق أكبر هو إنشاء "منطقة عازلة" أو "منطقة قتل" بين المدنيين الفلسطينيين وجنود الاحتلال.
وقال الدكتور أندرياس كريغ، الأستاذ المشارك في "كينغز كوليدج لندن": "هذا يمنح الجيش الإسرائيلي مساحة للمناورة وإنشاء منطقة قتل ضد أي أهداف محتملة... أشبه بأرض محايدة لا تتبع أحدا، لكن إسرائيل تستولي عليها من الجهة الفلسطينية".
وأشار خبراء آخرون إلى أن الفجوة بين موقع الكتل والخرائط قد تكون مقصودة لتحذير المدنيين بأنهم يقتربون من "منطقة خطر مرتفع"، حيث تم نصب بعض الكتل عمدا قرب طرق لتكون مرئية بوضوح.
الواقع المرير للسكان: "نعيش في خطر دائم"
أكد عبد القادر أيمن بكر، وهو من سكان حي الشجاعية، لـ"بي بي سي" أنه لم ير أي علامات واضحة رغم تعهد "إسرائيل" بذلك. وقال: "نرى المركبات العسكرية الإسرائيلية من مسافة قريبة، لكن لا نعلم إن كنا في منطقة آمنة أم في منطقة خطر فعلي. نحن نعيش في خطر دائم".
انتهاكات قاتلة داخل "الخط الأصفر"
تأتي هذه المخاوف في ظل إعلان جيش الاحتلال عن عدة "حوادث عبور للخط الأصفر" أطلق فيها النار على من تجاوزوه. وقد تمكنت "بي بي سي" من تحديد موقع مقطع مصور يوثق حادثا مأساويا في 17 أكتوبر، حيث استشهد 11 مدنيا (بينهم نساء وأطفال من عائلة واحدة) بعد استهداف مركبتهم شرق غزة. وحددت "بي بي سي" موقع الحادث على بعد نحو 125 مترا داخل حدود الخط الأصفر المرسوم في خرائط الجيش، مما يدحض رواية الاحتلال عن تجاوز الخط.
وزعم جيش الاحتلال أنه أطلق "نيرانا تحذيرية" ثم فتح النار بعد أن لم تتوقف "المركبة المشبوهة".
القانون الدولي الإنساني
أكد الدكتور لورنس هيل-كوثرن، أستاذ القانون الدولي في جامعة بريستول، أن التزامات "إسرائيل" بموجب القانون الدولي الإنساني لا تسقط حتى في حال تجاوز المدنيين الخط الأصفر. وقال: "يمكن لإسرائيل أن تستهدف فقط المقاتلين أو من يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية، ويجب ألا تتسبب في أضرار مفرطة بالمدنيين".

0 تعليق