منذ وصول الأمريكان إلى المنطقة بشكل رسمي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهم اللاعب الرئيسي القادر على تنظيم العلاقة بين الأطراف، بل وإيقاف الحروب، وبناء محطات السلام، سواء كانت محطات هشة أو مستقرة، وبالرغم من كل الدعايات التي يستخدمها بعض ممارسي السياسة في المنطقة، إلا أنهم يتمنون العلاقة معها، وكل ما ترونه مجرد استعراضات للاستهلاك المحلي وصرف النظر عن المشكلات الداخلية.
أتذكر هنا نقلاً عن دبلوماسي سعودي قوله إن الرئيس السابق حافظ الأسد قال يوماً للسعوديين: «إياكم أن تسمعوا أو تستجيبوا لما نقوله في الإذاعات عن علاقاتكم مع الأمريكان، كلها للدعاية الداخلية، بل أتمنى أن تقووا منها، حتى يمكن لكم لو احتجناكم أن تتوسطوا لنا». وهو ما حصل معه ومع غيره، فعندما تضيق الحلقات يبقى المفتاح عن السعوديين.
هذا لا يعني أن الأمريكان يريدون بناء منطقة فاضلة في الشرق الأوسط، بل لأن مصالحهم بالأساس تتطلب وجودهم، وتتطلب حمايتها. وكل من يقول إنه يكره أمريكا أو يعيب على الدول المعتدلة بسبب علاقاتها الجيدة معها، هم في الغرف المغلقة يتملقونها ويحتضنونها ويقدّمون لها من التنازلات ما لا تقدّمه الدول المحسوبة على علاقات وثيقة مع واشنطن.
بدأت أولى ملامح النفوذ الأمريكي تظهر بقوة في الشرق الأوسط مع نهاية حرب عام 1948م، بين العرب وإسرائيل، وهي الحرب التي هزمت فيها جيوش مصر والأردن والعراق وسورية، ونتج عنها سيطرة الإسرائيليين على نحو 60% من الأراضي التي كانت مقدمة للفلسطينيين قبل الحرب ورفضوها.
وفي العام 1949 م، ومع الهزيمة المريرة اضطرت الدول المهزومة والمحيطة بإسرائيل لعقد هدنة مع إسرائيل وضعت الخطوط الأساسية لإنهاء القتال بين كل من العراق والأردن من جهة وإسرائيل من جهة أخرى ضمن ما عرف باسم الخط الأخضر.
الدبلوماسية الأمريكية كانت حاضرة في هذه الهدنة وما تلاها، إذ دفع الأمريكيون عام 1950م نحو عقد اتفاق ثلاثي ضم كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، تعهدت فيه القوى الثلاث بالحفاظ على الحدود التي أفرزتها اتفاقيات الهدنة الموقعة بيت دول الطوق العربية وإسرائيل عام 1949م، كما التزمت بعدم تصدير الأسلحة إلى الدول المتصارعة خشية اندلاع الحرب من جديد.
لكن تأميم قناة السويس الذي اتخذه الرئيس جمال عبدالناصر في 26 يوليو 1956م، وتم بموجبه نقل ملكية شركة قناة السويس إلى الدولة المصرية، أدّى إلى اندلاع العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. حينها تدخلت واشنطن لإجبار القوى الثلاث المنتصرة على مصر؛ على الانسحاب وإيقاف الحرب، بل لأن الولايات المتحدة الأمريكية القادمة لتسود العالم كانت تريد القضاء على فلول النظام الدولي السابق (فرنسا وبريطانيا)، وطموحها في العودة من نافذة قناة السويس.
لم تكتّفِ الولايات المتحدة الأمريكية بذلك، بل استصدرت قراراً بالفصل بين مصر وإسرائيل عبر قوات الطوارئ الدولية، لكن إخراجها قبل أسابيع من يونيو 1967م، أدّى إلى الحرب والهزيمة المدوية واحتلال إسرائيل لثلاث دول عربية.
وفي أعقاب الحرب بدأت الدول العربية الفاعلة في الضغط على واشنطن لهندسة مخرج يؤدي إلى انتصار معنوي للعرب، والوصول لصيغة سلام. وفي العام 1978م، وقّعت مصر وإسرائيل في منتجع كامب ديفيد في الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة من الاتفاقيات مهدت الطريق لمعاهدة سلام دائمة بين مصر وإسرائيل، بدأت فعليا في العام 1979م.
بعدها بسنتين انتقلت الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع المملكة العربية السعودية (الدولة الفاعلة في الشرق الأوسط) للتوسط بين فرقاء الحرب الاهلية في لبنان، ثم إنهاء الاحتلال السوفيتي لأفغانستان الذي طال حتى العام 1988-19889م.
وظّفت الرياض ثقلها الدبلوماسي وعلاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن للحصول على اعتراف رسمي من أمريكا بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعيّاً ووحيداً للشعب الفلسطيني، الذي جاء إثر جهود طويلة أثمرت في العام 1988م، عن ذلك الاعتراف التاريخي.
كما وافقت الولايات المتحدة على بدء حوار مباشر مع المنظمة التي كانت تصنف بالإرهابية، كان ذلك نصراً دبلوماسياً كبيراً على طريق مشروع الدولتين وتحول القضية الفلسطينية من قضية لاجئين إلى شعب يبحث عن إنشاء دولته المستقلة.
وما كاد العام 1990 يبدأ حتى احتل العراق الكويت، لتقوم الرياض بالشراكة مع واشنطن بتشكيل تحالف دولي لتحرير الكويت، تلا ذلك مؤتمر مدريد للسلام 1991م، برعاية أمريكية، ثم اتفاقيات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي أثمرت عن سلطة فلسطينية في الضفة والقطاع، ومع انهيار الاتفاق بسبب تصرفات الفصائل المسلحة في غزة وردود الفعل الإسرائيلية، بقيت واشنطن والسعودية حاضرتين في المشهد الفلسطيني من خلال مباحثات كامب ديفيد الثانية بين أيهود باراك وكلنتون وعرفات العام 2000م، وبالطبع كان السعوديون حاضرين لحلحلة المصاعب والدفع نحو إنشاء دولة فلسطينية لم يكتب لها النجاح؛ بسبب تفضيل عرفات عقد اتفاق مع أرييل شارون بدلاً من باراك المنتهية ولايته.
اليوم ومع اتفاق شرم الشيخ الأخير بين إسرائيل وحماس لإنهاء القتال وعودة المحتجزين الإسرائيليين، تبقى واشنطن هي الأكثر تأثيراً في المشهد بشكله العام الممتد من تطوان غرباً إلى كابل شرقاً، وبالرغم من كل الشتائم والتعريض بها وبالدول المعتدلة في المنطقة إلا أن أعداء واشنطن في الإعلام يبحثون عن رضاها في الغرف المغلقة.
أخبار ذات صلة
0 تعليق